عادل الصويري
أدْخُلُ حُنْجَرَتَكَ مَمْسوساً بِعاشوراءاتٍ الأسئلة، يَبْتسِمُ لي هدهدٌ تَريبٌ، أقرأُ في عَيْنَيْهِ أنباءَ المواويلِ المُسَجّاةِ على النَهْرِ. غفوةٌ مُباغِتَةٌ تُداهِمُني، يبدو أنَّ الرؤيةَ لا تتحمَّلُ هُدهُداً يُنَغِّمُ عَزاءَهُ بالفواخِتِ. تَمُرُّ سَريعاً مِثْلَ بَرْقٍ خاطفٍ، لكنَّهُ برقٌ بلا أجنحة. جناحاكَ لا ريش فيهِما، والوقتُ لا يسمحُ بالسؤالِ عن سِرِّ طيرانِكَ بزيارةِ وارث! تأتي الريحُ بِصداك: (اشتاقت عيوني كربلاء).
كربلاء بخير، صوتك فيها، يُوَزِّعُ نافوراتٍ تُمَزِّقُ الخريفَ بالأطفال، وَيُهَذِّبُ الأنواءَ بِموكبِ (الصفّارين).
كُلُّ ما في المدينةِ يُشْبِهُني، الشوارعُ فهرسةٌ لبكاءِ المساءاتِ، تخرجُ مِنْ صَيْفِها وردةٌ قيلَ تندسُّ في لًغةٍ ليسَ تعرى. كُلُّ ما يُطبخُ الآن في لحظةِ الخِصْبِ يُشْبِهُني، القدورُ بداخِلِها ينضجُ الزمنُ المحتفي بالحياةِ وبالقدرِ المُخْتَلِفْ. غير أنَّ الحمامَ، يضمُّ إلى جُنْحِهِ دمعنا عارياً من صدى التسمياتِ؛ لذا في هُويَّتِهِ نَأْتَلِفْ.
كربلاء بخير، وأولادُها يتوزعونَ في المواكبِ كما تتوزعُ القصائدُ في الزمن. إنَّهُ في المواكبِ مجازٌ جديد، يسألُ:
كيفَ للوقتِ أن يسيلَ معَ الماءِ، ويبدو – بينَ الهوامشِ – ناراً؟ والخيامُ التي أُريقَتْ على المِلْح تَشَظَّتْ فوقَ الخرائطِ أطفالاً مِنَ المَحْوِ، من بُكاءِ الهزيعاتِ؟ وكيفَ الحُقولُ عنْدَ انطفاءاتِ الظهيراتِ، عُشْبُها نامَ في النَحْرِ؟
رَكضنا على البياضِ، وَرُحْنا نقطفُ الصُبْحَ من مواكبَ للضوءِ، غَفَوْنا على الأناشيدِ نَذْراً، وَسَأَلْنا: كيفَ النخيلُ تَحَفّى راكضاً في الفُراتِ ترنيمةَ الـ (هيهاتَ منَّا)، وَبَلَّلَ الحُلْمَ بُعْدٌ، في تلاشي المياهِ صارَ وجوداً؟
كربلاءُ بخير، صَوْتُكَ فيها: مَنْهجٌ حديثٌ لقراءةِ شموعِ ليلةِ العاشر. قُدورٌ تطبخُ الغيبَ وتوزِّعُهُ ثواباً على الناسِ والملائكة. أخرجُ مِنْ حنجرتِكَ، وقد سَرَقْتُ مِنْ دفئها ما يكفي للمواصلة. سرقتُ كلَّ الدفءِ وأدري لو داهمكَ بَرْدٌ تلفُّكَ كربلاءُ بعباءاتِ نسوتِها، وتنامُ في كشوفاتِك الطفِّيّة.
***
الكشوفات
تُعَلِّقُنا كربلاءُ فَواصِلَ بينَ النُعاسِ المَريرِ، وَصَحْوِ احْمِرارِ الرياحِ، فَنَخْضَرُّ في المَوْسِمِ المُتَمَرِّدِ دَمْعاً، تَحُجُّ المرايا لِأسمائنا. هناكَ على بُعْدِ سَوْسَنَةٍ في الزمانِ القتيلِ حريرٌ جَديدٌ، تَضجُّ الحُقولُ بِأَرْواحِها العاريةْ. وَذُعْرٌ يَلفُّ الصَحارى، يَرُشُّ الحُسَيْنُ الصَحارى بِخِصْبِ مُحَمَّدَ، تَنْهَضُ مَوْؤودةُ الفِكرةِ القانِيَةْ. ضَفيرَتُها جِسْرُ جُرْحٍ، وَحِنّاؤُها مُدُنٌ لِمِياهِ الكلامِ، وَضِحْكَتُها تَرْجَماتُ البخور. هناكَ على بُعْدِ نَوْرَسَةٍ في الزمانِ القتيلْ، تَنامُ الأساطيرُ في بَحْرِهِ وَتَقومُ النُذور. يَرُشُّ الحُسينُ الضِفافَ بِوَرْدِ مُحَمَّدَ، حيثُ عباءَتُهُ تستحيلُ سَماءً، فَيَفْرشُها لِجراحِ الطُيور.
هناكَ، على بُعْدِ أُرجوحةٍ في الزمانِ القتيل، صغارٌ تُطارِدُ خطوتُهُمْ لحظةً في الخيامْ،
رَمادٌ يُحيطُ عباءةَ (زينبَ)، والذُعْرُ مِثْلَ الضفيرةِ يَلْتَفُّ فيها، بُكاءُ السماءِ انسِدالٌ على مَسْرحٍ يتلظّى على رَمْلِهِ في الهَجيرِ اليَمام. تُرابٌ يُغطّي الصِغارَ، يَرُشُّ الحُسَيْنُ مِنَ الغفوةِ المُنْتقاةِ دِماءَ الرَضيعِ، فَتَخْجلُ في المُسْتَحيلِ السِهامْ
هناكَ على بُعْدِ مِئْذَنَةٍ في الزَمانِ القَتيل، بِضِحْكَتِهِ وَطَنٌ شاعِريٌّ، يَطيرُ إلَيْهِ فَراشُ اللُجوء، يُؤذِّنُ عُشْبٌ، يَرشُّ الحسينُ الصلاةَ بِوَجْهِ مُحَمَّدَ، يَهْمسُ: إنَّ الجِراحَ وُضوء
حَمائمُ في دَمِهِ تَسْتَعِدُّ، تَحُطُّ على النَخْلِ، تُوقِظُ تَمْرَ اللُغاتِ، وَتَشْطُبُ مِنْ كُلِّ عِذْقٍ تَكاسُلَ صَيْفِ السُباتِ، وَيَمْشي الحُسَيْنُ، وَحينَ تَشُمُّ الضِفافُ خُطاهُ، عصافيرَ من ظَمأٍ يستفيقُ الفُراتْ.
هُناكَ على بُعْدِ رَفْرَفَةٍ حالِمَةْ، تَغوصُ المفازاتُ في جُرْحِهِ، تَمدُّ الشموسُ قصائدَ تَخْشَعُ في اللحظةِ القاتِمةْ. وفي غفلةٍ مِنْ نُعاسِ الغياب، يُباغِتُ كُلَّ الوجودِ حضوراً
وبالماوراءِ يَجيءُ؛ ليبتكرَ الوردةَ القادِمَةْ.