الحرية والواقعية عند ميلان كونديرا

ثقافة 2023/08/02
...

حسن الكعبي 



رحيل – ميلان كونديرا- أثار جملة من الإشكاليات التي تتعلق بكيفية تصنيفه على حقل من الحقول الابستمولوجية والإبداعية، كممارسات جوهرية في مشروعه الكتابي، فهو روائي وفيلسوف وناقد أدبي وإنثروبولوجي ومنظر سياسي وبمعنى ما أن تشكُّله الثقافي هو ملتقى تشكُّلات ثقافية متعددة ، لكن بعض التصورات النقدية ترى أن “السياسة من أهم فلسفات كونديرا في الأدب الحديث. ويتجلى ذلك في كتابه “المزرعة المفقودة” الذي ركَّز فيه على دور السياسة في حياة الإنسان، حيث يرى أن السياسة تتداخل مع الحياة اليومية وتؤثر في كافة جوانب حياة الشخص. ومن هذا المنظور، يعلِّق كونديرا أهمية كبيرة على قدرة الإنسان على تحمُّل التأثيرات السلبية للسياسة”.
وجد - كونديرا - في الرواية مرتكزاته في تمثيل هذه التعددية، وبوصفها الحاضن المعرفي للإشكاليات الفلسفية التي يطرحها، فتقويضه للسرديات والايديولوجيات الكبرى ,والكشف عن متضمناتها الفاشية تم عبر الرواية، لكن الخطوط البيانية عند كونديرا، لا تعتمد الشكل التقليدي الفني في بناء الرواية-  أي الخط البياني المتصاعد - , بل إن خطوط الرواية عنده تسير بمنعرجات تتعالق بالفلسفي والنفسي والأخلاقي التعليمي بمعنى أن الرواية هي حاضن للتعددية التي تميز كونديرا، ومن هنا منشأ الاعتراض على كون كونديرا لا يمكن أن يصنف كروائي، رغم أهميته .

سبق لجيمس وود في كتابه ( كيف تعمل القصة ) أن جرَّد كونديرا من صفة الناقد الأدبي، لكنه مع ذلك أشاد بدوره التعليمي للفن الروائي في ثلاثيته الشهيرة التي وضعها – وود - بمجاورة العمل الرائد في فنيات القصة لفورستر .

لكن المساهمة الأبرز لكونديرا تكمن في منظوراته لمفهوم الحرية ومفهوم الواقعية فمع النقدية الجديدة وإسهامات كونديرا، لم تعد الواقعية تثير إشكالياتها كما في السابق على نحو تعددت فيه إلى واقعيات كثيرة، أضاف إليها جيمس وود ما أسماه بالواقعية الهستيرية، وأصبحت هذه التعددية تشير إلى قصور في التصور النقدي الواقعي الناظر لعلاقة الواقع بالمنتج الأدبي والفني في إطار المحاكاة والنقل الآلي وهذه العلاقة(في إطار تصوراتها) كفت عن انتاج مثيراتها وحسمت لصالح الفن نفسه، ولصالح الإدراك المعرفي الذي أصبح يتحقق في الواقعية النقدية الجديدة حسب (جابر عصفور) وفي إطار السيطرة على الانفعالات من خلال تجربة هي نتاج لتفاعل عالمين هما العالم الخارجي والعالم الداخلي للمبدع.

في إطار هذا التصور استبعد المفهوم الآلي للواقعية  الذي وصفه (موريس بورا) المراقبة الكسولة للواقع . وهذا النوع من الواقعية كما يرى بورا يضع الواقعية في مقابلة ضدية مع الحداثة نتاج اعتماد الحداثة على ألعاب الرمز التي تطبع النص بالغموض إلا أن بورا يوضح أن الحداثة بتجريباتها العالية لا تتعارض مع الواقعية، وإنما الإبهام هو الذي يتعارض ليس مع الواقعية وحدها وإنما مع الحداثة أيضاً، فالواقعية والخطاب الحداثي على حد تعبير الناقد (محمد زكي العشماوي) يعترفان بالغموض، لكنه الغموض المنبثق من رؤية أنه لا يمكن أن يكون الفن صريحاً، يُسلِّم نفسه من المرة الأولى بوضوح كامل، فالفن يستعين بعناصر أخرى كثيرة  مختلفة، وهو دائماً يعطي تعبيراً غير عادي، بأن يعبِّر عن الأشياء العادية بأسلوب غير عادي وغير مألوف، وهو ما يحقق الدهشة والوقوف للتأمل والتفكير ) إن استعانة الفن بعناصر كثيرة يفرض على النص نوعاً من الغموض الذي يمكن أن يزول عند القراءة الواعية المتدبِّرة، وبالتالي فإن العجز الإبداعي يتعلق بالإبهام الذي ينتقده ـ بير زيما  وآخرون .

لذلك  لا يوجد  تصور يضع الواقعية بالتضاد مع الحداثة وتياراتها باعتبار واقعية الحداثة ذاتها بل وواقعية ما بعد الحداثة، وواقعية التيارات الأدبية جميعها حتى المُغرِق منها في تصورات ذاتية، لأن الواقعية والواقع هما المادة الأساسية لاشتغالات النصوص الأدبية والفنية على السواء ولذلك لا يوجد تعارض للواقعية مع الحداثة إلا في حدود التصورات التقليدية للواقعية الآلية التي جعلت النصوص الأدبية والفنية على حد تعبير ( د . كريم الوائلي) أقرب إلى  المقالات السياسية والاجتماعية، والمعرفة التي تنطوي عليها مباشرة وسطحية .

 إن التصور التقليدي للواقعية الآلية يشترط في النصوص الأدبية أن تتعامل مع الواقع في إطار مرآوي، أي أن يتحول النص إلى مرآة تعكس أجزاء من الواقع، من دون أن تتدخل ذات الكاتب المبدع في تشكيل رؤيتها الخاصة وطرح تصوراتها حول الموضوع الواقعي المراد  تصويره ضمن النص الأدبي والفني، وقد أنتج هذا التصور فوضى كتابية وأصبحت النصوص تعكس الواقع بعشوائية فجَّة ومن دون ضوابط فنية . 

إن هذه العشوائية التي قاد إليها التصور الواقعي وجدت لها مخرجاً في التصورات الرومانسية  التي أطلقت دور الخيال والذاتية مقابل المحاكاة والموضوعية، غير أن هذه النزعة تطرَّفت في تصوُّراتها الذاتية مما قاد إلى انكفاء النص وانغلاق بنيته مما عزز أشكالاً من الغربة والتوحُّد عن الواقع الموضوعي . 

 في سياق ذلك أُعيد طرح التصور الواقعي، لكن ضمن نزعة واقعية جديدة هي النقدية الجديدة المتجاوزة للنزعة الواقعية الآلية، حيث أصبح التوظيف والتعاطي مع الإشكاليات الاجتماعية والسياسية في الواقعية الجديدة في توصيف الموضوع الخارجي يتم من خلال التحويلات الذاتية، أي في إطار جدل الذات والموضوع وتصالح الواقع الخارجي مع العالم الداخلي للمبدع، فقد أصبحت طاقة الأشكال الواقعية الموظَّفة في الأعمال الأدبية والفنية تتحول لتكون على حد تعبير ـ ما ركوز ـ كامنة في الفن نفسه . 

خلاصة القول إن التصور الجديد للواقعية لم يتشكل إلا بعد مروره بمراحل تطوّرية عبَّرت عنها جملة من الواقعيات , وضمن إسهامات  ـ ميلان كونديرا ـ الذي عدَّ  واقعية النص باعتبار صيرورته أي أن كل نص ينتهي إلى صيرورة تنتج معقوليتها وإقناعها فهي بالتالي واقعية والنص تبعاً لذلك هو نص واقعي، ويقترح ( كونديرا) على الفن في إطار هذه الصيرورة وظيفة (تحطيم الواقع وإعادة تشكيله) يعني بالتحطيم تقويض التناسقية وتعطيل وظائف الأنساق التي تُنتج عيوبها في الواقع، في سياق التقاطع مع المنظور التفكيكي عند هايدجر الذي تتنزل التفكيكية في تصوراته ضمن مقولته ( كل هدم هو إعادة بناء، و كما يقول د. حسن النعمي “ تعد الحرية والواقعية أفكاراً جوهرية في فلسفة كونديرا في الأدب الحديث. حيث يروج كونديرا لفكرة أن الحرية هي معنى وجود الإنسان، وأن الإنسان ينبغي أن يسعى لتفعيل حريته في كل جانب من جوانب حياته. ومن هذه الفلسفة يولد مفهوم الواقعية في أعمال كونديرا،” . بمعنى أن كونديرا  لا يدعو لفحص الواقع بل إلى فحص الوجود. والوجود لا يكمن بمجرياته كأمر واقع، بل بكونه حقل الإمكانات الإنسانية، كل ما يمكن الإنسان أن يصيره، وكل ما هو قادر عليه. ليرتحل كونديرا بهذا المفهوم حول الواقعية إلى أبعد من ذلك ضمن السؤال الأنطولوجي الذي يتعلّق بهوية الفرد ضمن الواقع .