القصة غير المروية لأول معرض فني عراقي في الاتحاد السوفيتي

ثقافة 2023/08/02
...

 أولغا نيفيدوفا *


ترجمة: حسن مظفر 




أقيم أول معرض للفن العراقي الحديث في الاتحاد السوفيتي عام 1959، وقد نُظم المعرض ضمن إطار الاتفاق الثنائي الموقَّع بين العراق والاتحاد السوفيتي في العام نفسه، لتعزيز العلاقات والتبادل الثقافي بين الطرفين.

أكثر من 200 عمل فني عرض في موسكو، فضلاً عن باكو وأوديسا (أوكرانيا حاليا) ولمدّة تقارب الثلاثة أشهر، حيث عُرض فيه لوحات ورسومات ومنحوتات ضمن المدرستين التشكيلية والتجريدية، ومن دون قصد أو تخطيط مسبق، فقد أثار المعرض نقاشات حامية في مناطق مختلفة من أقاليم الاتحاد وفي الإعلام الرسمي وفي دفاتر زوار المتاحف التي شهدت العرض.


ومن خلال مراجعة المناقشات حول المعرض، يهدف هذا المقال الى تسليط الضوء على تنظيم المعرض وكيفية تعامل معه في الاتحاد السوفيتي في سياق الأيديولوجية الراسخة للواقعية الاشتراكية؟ وماذا كان الغرض من هذا المعرض وهل كان هناك دور للمسؤولين الثقافيين السوفييت باختيار الاعمال والترويج للعرض؟ كيف استقبل الجمهور السوفييتي المعرض العراقي؟ وكيف كانت ردة فعل الصحافة؟ وكيف أثرت الواقعية الاشتراكية على إدراك الناس للفن العراقي الحديث؟ 

لإلقاء نظرة على تاريخ تخطيط وتنظيم المعرض والنقاشات التي دارت حوله، اعتمدت في الغالب على مواد إرشيفية غير منشورة سابقا من وزارة الثقافة في الاتحاد السوفيتي، ووزارة الثقافة في الاتحاد الروسي بالإضافة لمواد أخرى من أرشيف الدولة الروسية للأدب والفنون، كما حصلت على معلومات مفيدة من مقتطفات من الصحف والمجلات السوفيتية من خمسينيات وستينيات القرن الماضي.


تحسن العلاقات السياسية بين العراق والاتحاد السوفيتي في نهاية الخمسينيات كان متبوعا بنمو كبير في العلاقات الثقافية، التعاون بدأ مباشرة بعد انقلاب 14 تموز/يوليو 1958 الذي نتج عنه انهاء الحكم الملكي الهاشمي الموالي لبريطانيا وقيام الجمهورية العراقية. نالت الجمهورية العراقية تحت قيادة عبد الكريم قاسم دعماً حماسياً في الاتحاد السوفيتي . لقد اكتسبت منطقة الشرق الأوسط والعراق بوجه خاص أهمية استراتيجية كبيرة في خمسينيات القرن الماضي باعتبارها ساحة معركة ضمن سياق الحرب الباردة، فبالإضافة الى الأنشطة السياسية والاقتصادية والعسكرية خصصت الجمهورية العراقية الفتية موارد كبيرة للدبلوماسية الثقافية لتقديم قصة البلد الى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية عبر التاريخ والفن والثقافة.

كان العام 1959 مليئاً بفعاليات التبادل الثقافي، ففي 5 مايس/ مايو 1959 وقع العراق الاتفاق الثنائي لتعزيز العلاقات الثقافية وتم توزيع برنامج الأنشطة الثقافية التي سيتم العمل عليها بموجب هذه الاتفاقية على العديد من المنظمات والهيئات الرسمية في الاتحاد السوفيتي مثل وزارة الثقافة ووزارة التعليم العالي وأكاديمية العلوم في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، جمعية عموم الاتحاد للعلاقات الثقافية مع الدول الأجنبية، اتحاد الجمعيات الرياضية، اتحاد جمعيات الصليب الأحمر، اتحاد جمعيات الهلال الأحمر في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية. خطة وزارة الثقافة تضمنت توجيه دعوة لوفد ثقافي يمثل العراق للتعرف بشكل أكبر على الثقافة والفن في الاتحاد السوفيتي، كذلك تنظيم عرض راقص ومهرجان للفيلم السوفيتي ومعرضا للفن السوفيتي في العراق وآخر للفن العراقي في الاتحاد الاتحاد السوفيتي وإرسال مصورين اثنين لإنتاج فيلم وثائقي عن العراق وتنظيم عرض أول لفيلم سينمائي عراقي في دور عرض سينمائية سوفيتية.

الاتفاقية بلا شك سهلت حركة الفنانين، الأعمال الفنية، البرامج الثقافية وخدمات التعليم بين العراق والاتحاد السوفيتي. وبحلول شهر تموز/يوليو 1959 زار مجموعة من الفنانين السوفييت العراق للمرة الأولى لتقديم عروض مختلفة وقد تزامنت زيارتهم مع احتفالات الذكرى الأولى للثورة العراقية، حضر حفل الافتتاح مسؤولون حكوميون من بينهم الرئيس عبد الكريم قاسم شخصياً.

خلال اقامتهم في العراق، قدم الفنانون السوفييت ستة عروض حضرها ما يقارب 15.000 شخص. كان برنامجاً منوعاً ومناسبا لذائقة الجمهور  العراقي فقد تضمن مقاطع من الباليه الكلاسيكية، أغانيَ شعبية، عرض ألعاب سحرية، عزفاً منفرداً على الطبل، رقصات شعبية جورجية، ألعاب بهلوانية، أغان شعبية أذربيجانية وأغانيَ شعبية عراقية أداها بالعربية المغني السوفياتي رشيد بهبادوف. 

في 21-22 آب/ أغسطس 1959 أطلق الفيلم العراقي (سعيد أفندي) للعرض في سينمات موسكو وباكو، وخلال شهري حزيران وتموز زار مصوران سوفيتيان العراق لإنتاج فيلم وثائقي يحتفي بالذكرى الأولى للثورة. وكان ذروة برنامج التبادل الثقافي المعرض المتنقل الكبير للفن العراقي المكرس للذكرى الأولى للجمهورية العراقية وقد أقيم للفترة من 21 تموز/ يوليو لغاية 19 تشرين الثاني/أكتوبر 1959 في متحف الدولة للفنون الشرقية في موسكو، متحف أذربيجان الوطني للفنون في باكو ومتحف الفن الشرقي والغربي في أوديسا. 


 كان على منظمي المعرض مواجهة تحديات عدة من تحديد موعد الافتتاح الى اختيار الاعمال الفنية ومعالجة قضايا الرقابة. كان في النية افتتاح المعرض في 14 تموز/ يوليو بالتزامن مع الذكرى الأولى للثورة العراقية، لكن ولظروف غير متوقعة تم تغيير تاريخ افتتاح العرض مرتين على الأقل ليتم افتتاحه أخيراً في متحف الدولة للفنون الشرقية في موسكو بعد أسبوع وتحديداً في 21 تموز/يوليو 1959. بدأ الافتتاح الرسمي في الساعة الرابعة عصراً بحضور وزير الثقافة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية والسفير العراقي عبد الوهاب محمود والفنان العراقي فرج عبّو وعدد من الصحفيين والدبلوماسيين. كما حضر وفد من المسؤولين العراقيين كانوا قد وصلوا الى موسكو في زيارة ودية في الفترة 13-26 تموز/يوليو كما زاروا خلالها باكو وطشقند ، كان الوفد برئاسة صلاح خالص الذي كان يشغل آنذاك منصب مدير المعارف العام ورئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة ورئيس الاتحاد العام للكتّاب في العراق وعضو الحزب الشيوعي العراقي، كما ضم الوفد صفاء الحافظ السكرتير الأول لاتحاد المعلمين في العراق. 

العرض الأول أقيم في متحف الدولة للفنون الشرقية في موسكو، وصلت الشحنة الأولى المكونة من 102 عمل فني في شهر مايو وتم نقلها من الصين حيث كانت معروضة. هذه الأعمال كانت قد أنجزت خلال الأشهر الأولى بعد الثورة ومثلت الثيمة الرئيسية لمعرض ثورة 1958 الذي نُظم في بغداد في شهر أيلول/سبتمبر 1958  وقد وصف بأنه “نقطة انطلاق” لأنه كان أول معرض للنظام الجديد في العراق وقد شمل أعمالاً لفنانين بارزين وصغار على حد سواء ومع ذلك فقد تعرضت بعض الأعمال لانتقادات مباشرة بعد افتتاح المعرض في بغداد. وصف متحف الدولة للفنون الشرقية في موسكو الأعمال العراقية المرسلة بأنها متواضعة وتعاني من جودتها الفنية من إشكاليات مطالبا الجانب العراقي بارسال المزيد من الأمثلة الفنية. بتاريخ 18 مايس/مايو 1959 أبلغ مدير المتحف وزارة الثقافة السوفيتية بأن العراقيين قد اختاروا 100 عمل إضافي لفنانين عراقيين معروفين ولهم دور مركزي في صياغة الحداثة العراقية، وهذا ما قد أضاف قوة ودافع إضافيين الى المعرض وعزز المجموعة الأولى المكونة من 102 عمل فني. كما تضمنت رسالة مدير المتحف إشارة الى وجود عدد من الأعمال التجريدية والتشكيلية، وقد تم التغاضي عن هذه الملاحظة من قبل المسؤولين الحكوميين. وفي يوم الافتتاح تم إزالة عمل من المعرض بطلب من السفير العراقي، كان هذا العمل لوحة لمحمد علي لقمان بعنوان (شباب يحتفلون بيوم النصر) الذي كان يحتوي على تكوين متعدد الاشكال ولافتة تحمل صورة الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

النسخة الأخيرة من المعرض تضمنت أكثر من 200 عمل منها أعمال من معرض الثورة (الذي أقيم في بغداد في أيلول/سبتمبر 1958) بالإضافة لأعمال فنانين عراقيين بارزين وعدد من أعمال الفنون التطبيقية، وضمّت قائمة الفنانين المشاركين في المعرض الأسماء التالية:

عبد الرحمن الكيلاني، عبد الأمير القزّاز، عبد القادر عبد الستار، عذراء العزاوي، أكرم شكري، علي الشعلان، علي حسين شوقي، علياء القرغولي، عطا صبري، بوخوص بابلانيان، فائق حسن، فائز الزبيدي، فرج عبّو، فاضل عباس، غالب ناجي الخفاجي، حافظ الدروبي، حامد العطار، حامد يوسف، إسماعيل الشيخلي، إسماعيل فتاح الترك، جواد سليم، كاظم حيدر، خالد حميد، خالد الرّحال، خالد الجادر، خالد القصّاب، لطيف الخفاجي، لورنا سليم، مهدي البياتي، محمود حسين، محمود صبري، محمد غني حكمت، محمد صالح زكي، نذيرة الخطاب، نزار سليم، نزيهة رشيد، نزيهة سليم، نوري الراوي، قاسم ناجي، راكان دبدوب، رشيد حاتم، صادق أحمد، شاكر حسن آل سعيد، سوزان الشيخلي، طالب مكي، طارق مظلوم، وداد الأورفلي، زيد صالح زكي، عزيز السباهي وآخرون..

من أعمال المعرض (رجل شاب وزوجته)، (فتاة)، (الأمومة) ولوحة تخيلية لـ(ألف ليلة وليلة) لجواد سليم. (بورتريه فتاة) و (القرية) لخالد الجادر. (ثورة النور) و (يوم الغسيل) لحافظ الدروبي. (بورتريه لعبد الكريم قاسم) وتمثال نصفي من البرونز يمثل فتاة شابة لخالد الرّحال. (بدوي) لنزار سليم و (جدار السلام) لخالد حميد. (أشخاص في الظلام)، (في حانة) و (حجر ماسون) لمحمود صبري. (بائعو الرقي) لاسماعيل الشيخلي. (الضحايا) لشاكر حسن آل سعيد و (المحبوب) لطالب مكي. كما تضمن المعرض أعمال عرضت في معرض الثورة في بغداد منها لوحات كاظم حيدر (الثورة العراقية) ، (14 تموز) و (أرى بيديك القوة لتدمير الاستعمار) و لنوري الراوي (بين عالمين)، (إشراق الفرح) و(تقارب) و لصادق مظلوم (الشيخ ورعيته) و (حادثة الجسر الخالدة) و (شعلة الحرية). بعض الاعمال أنجزها سجناء سياسيون سابقون اعتقلوا في سجن “نقرة السلمان” مثل رشيد حاتم وعزيز السباهي. البورتريه النصفي للفتاة الشابة المنجز من قبل خالد الرحال اصبح شعارا غير رسمي للمعرض وغالباً ما استخدم في العديد من المنشورات المتعلقة بالمعرض فضلا عن الملصق الرسمي (شكل رقم 1) 

 اختيار موضوعات اللوحات تراوح بين الصور الشخصية والمناظر الطبيعية والحياة اليومية الى مناهضة الاستعمار والحداثة والتحرر واحياء الثقافة الوطنية. عانى الفنانون العراقيون في الخمسينيات من التوتر والقلق الناجمين عن الواقع السياسية في منطقتهم والعديد من المواضيع المشتركة بينهم متعلقة بمشاكل سياسية واجتماعية. تم عرض لوحات الفنانين الكبار والشباب بصورة متساوية فالهدف الأساسي للمعرض كان واضحا، توحيد الابداعات الفردية المشتتة في جبهة ثقافية قوية وموحدة وتحديد موقف الفن والفنان العراقي في القرن العشرين.

بعد إغلاق المعرض في العشرين من آب/أغسطس تم نقل الأعمال الفنية الى متحف أذربيجان الوطني للفنون في باكو حيث موقع العرض التالي للفترة من 5-25 أيلول/سبتمبر، وعلى الرغم من افتتاحه لأقل من 3 أسابيع فقد سجل المعرض حضور 7000 زائر وتنظيم 40 جولة سياحية وزاد عدد اللوحات المعروضة بإضافة 7 لوحات للفنان العراقي فرج عبّو الذي كُلِّف بمرافقة جولة المعرض ليقضي شهراً ونصف في الاتحاد السوفيتي من 13 تموز/يوليو الى 31 آب/أغسطس زار خلالها كييف ولينينغراد وباكو وموسكو. وخلال هذه الفترة التقى فرج عبّو بالفنانين السوفيت وزار ورشاً مختلفة وحضر افتتاح معارض ولقاءات رسمية متعلقة بالصداقة العراقية السوفيتية. فرج عبّو خصص بعض الوقت للرسم اثناء تواجده في استوديو الاتحاد السوفيتي للفنانين، هناك أنجز 16 لوحة منها 7 ضُمّت الى الأعمال المشاركة في المعرض العراقي المقام في باكو وسينتقل بعدها الى أوديسا.


موقع المعرض التالي كان متحف الفن الشرقي والغربي في أوديسا (أوكرانيا). قُلصت مدة المعرض الى 8 أيام فقط وبناء على طلب من السفارة العراقية في موسكو فأن مواد المعرض يجب أن تشحن الى بولندا حيث محطة الجولة الدولية التالية. ومع ذلك ووفقا لبيان صحفي صدر لاحقا من متحف أوديسا فقد شهد المعرض للفترة من 11-19 تشرين أول/أكتوبر حضور 3750 زائر و25 جولة سياحية. وبعد اغلاق المعرض مباشرة تم شحن 220 عمل عملا فنيا الى العاصمة البولندية وارسو. 

المجلات والجرائد السوفيتية لتلك الحقبة كانت غنية بالمقالات عن المعرض العراقي. وضمنت مشاهد من افتتاح المعرض العراقي في الفيلم الوثائقي Chronicles of our days  الذي عرض في أغلب دور السينما السوفيتية. تقارير المعرض كانت تنشر في مجلات Dekorativnoe Iskusstvo و Khudzhnik  وصحف Sovetskaya kultura  و Vechernya Moskva. مدير متحف باكو (كاظم كاظمزادة) وصف المعرض في افتتاحية لإحدى الصحف بأنه (حدث رئيسي في الحياة الثقافية للمدينة ويؤسس لروابط قوية بين الشعبين العراقي والآذربيجاني) الفنان العراقي فرج عبّو كتب مقالا عن المدرسة العراقية للفنون التشكيلية والنحت وقد نشر في مجلة Iskusstvo الناطقة باسم وزارة الثقافة السوفيتية واتحاد الفنانين السوفيت. المؤرخ الفني السوفيتي البارز سيرجي بيفزنر شارك في دراسة بعنوان (الفن الحديث في العراق) لجريدة Pevzner معطيا تاريخاً تفصيلياً لتطور الفن التشكيلي العراقي وتحليلاً تقريبي لأعمال المعرض ممتدحاً أعمال أكرم شكري، فائق حسن، فرج عبّو، حافظ الدروبي، إسماعيل الشيخلي، جواد سليم، خالد الجادر، محمود صبري وآخرين.. كما ذكر الملاحظة التالية:

( قد تكون السمة الأبرز في الفن العراقي المعاصر هي البحث عن طريقة خاصة في التعبير الفني، فاذا كان اختيار الموضوع يتميز بثيمة معينة – فقد كرّس الفنانون الأعمال لبلدهم وطبيعة الحياة اليومية للشعب العراقي- فإن الأساليب التي استخدمها الفنانون متنوعة للغاية من حيث الأسلوب، فبينما اتبع عدد منهم الواقعية في اللوحات والمنحوتات، اتجه الآخرون الى المدارس الفنية الغربية الحديثة..)

علي الرغم من صعوبة نشوب معركة للآراء في الاتحاد السوفيتي، فإن المعرض العراقي قد أثار نقاشات ساخنة حيث اندلعت المحادثات عبر أقاليم الاتحاد ليس فقط في وسائل الاعلام الرسمية ولكن على صفحات دفاتر الزوار في متحف الدولة للفن الشرقي في موسكو وبشكل أكبر في متحف أذربيجان الوطني للفنون في باكو، ورغم عدم وجود أرشيف لدفتر زوار المعرض في أوديسا، لكن يمكننا ان نستشعر جزء من الانطباع من خلال الرسالة الرسمية التي أرسلها المتحف الى وزارة الثقافة حيث جاء فيها: (عبر زوار المعرض في سجل الضيوف عن الارتياح الكبير للطاقة الثورية الواضحة في العديد من اللوحات وأشادوا بالمهارات العالية للفنانين، لكنهم أعربوا في الوقت نفسه عن امتعاضهم من وجود بعض المظاهر الشكلية(formalism)  في  عدد قليل من الأعمال المعروضة في المتحف).


شهادات من دفاتر زوار المعرض في موسكو


(المعرض العراقي المقام في موسكو في الذكرى الأولى لانتصار ثورة الشعب العراقي ترك انطباعا رائعا بتنوع مواضيعه وأساليبه وما قدمه من نماذج فنية جميلة. اعمال السيراميك في المعرض تظهر حرفية عالية وحفاظا على الإرث الوطني. الأعمال الفخارية غير الملونة والتي صنعها حرفيون غير معروفين تبين المواهب الفنية العالية. أعمال الخزف كانت مثالية. نحن ممتنون للمسؤولين عن الثقافة في العراق لإتاحة هذه الفرصة للتعرف بشكل افضل على فن هذا البلد العريق كما أنه من الرائع أن يقام هذا المعرض في أيام الاحتفال بتأسيس الجمهورية العراقية.)


(ان معرض الفن العراقي المعاصر له أهمية كبيرة عند الشعب السوفيتي لأنه يتيح لهم الفرصة للتعرف على الفنون الجميلة والتطبيقية لهذا البلد للمرة الأولى. اللوحات مليئة بما يجعل المشاهد يشعر بالأهمية الاستثنائية لتقدم الفن العراقي. المعرض بالتأكيد سيقوي ويزيد من الروابط الثقافية بين العراق والاتحاد السوفيتي. أتمنى مخلصا النجاح للفنانين العراقيين وللشعب العراقي. شكرا لإقامة هذا المعرض.)


(لقد شاهدت المعرض العراقي في موسكو باهتمام كبير، فقط أحب أن أقترح على الفنانين العراقيين أن يقدموا حياة الشعب العراقي بأسلوب واقعي لا بأسلوب تجريدي. أتمنى أن أرى المعرض القادم في موسكو أن الفنانين العراقيين قد اختاروا اللغة الواقعية في التعبير عن فنهم.)


(معرض فناني الجمهورية العراقية جيد جدا ومتنوع في المواضيع المقدمة ويعكس الحياة العصرية للشعب العراقي. مجموعة كبيرة من الفنانين العراقيين سيكونون قادرين على قيادة الموجة الواقعية في الفن العراقي، نحن واثقون أن تحقق الحركة الواقعية النجاح الكامل في الفن العراقي مستقبلا. أتمنى للفنانين العراقيين المزيد من النجاح لتحسين مهاراتهم في طريق الواقعية الفنية. تحية حارة لكل العراقيين محبي الحرية. شعبنا بأكمله يتابع باهتمام عظيم تقدمكم في كل المجالات الحياتية.)


شهادات من دفاتر زوار المعرض في باكو 


(نحن طلاب مدرسة الفنون، نود أن نشكركم على إقامة المعرض ونتمنى أن نرى المزيد من المعارض المماثلة. الأفكار، المواضيع والتقنيات في الأعمال الفنية أدهشتنا بتنوعها. تقريبا كل عمل فني في المعرض يتنفس الحداثة. هذا معرض وطني خالص. الفن العراقي لا يمكن أ، يختلط بفن أي أمة أخرى. نتمنى للفنانين العراقيين التطور بروح الحداثة.)


(معرض أساتذة الفن العراقي  ينقل بشكل ممتاز روح الجمهورية الجديدة، روح نصر الشعب العراقي. بصورة عامة المعرض جيد بأعمال جيدة جدا، لكن نتمنى خلال الزمن أن يصل الفنان العراقي بنجاح الى مستوى أكثر تميزا يجعله يتخلى عن الأساليب التجريدية والتكعيبية وغيرهما من الموضات الغربية لأنها لا تمثل فنا وطنيا فهي عناصر ثقافية غريبة. أتمنى التوفيق للفنانين والنحاتين العراقيين.)


(اللوحات جيدة جدا تصوّر العراق وثورته، لكن بعضها للأسف بأسلوب تجريدي غير مفهوم تماما)


(زرت معرض الفن العراقي، باستثناء بعض الأعمال النحتية التي يمكن اعتبارها مقبولة الى حد ما، ولكن بالنسبة للرسم فهو رعب! أنه لأمر مدهش أن يسمح بعرض أعمال كهذه في معرض معتمد من قبل مجلس الفنون. أشعر بالرعب والاشمئزاز لرؤية هذه الأعمال.)


(المعرض بشكل عام لا يترك انطباعا جيدا، لكن بالنظر الى حسناته فقد تركت اللوحات الواقعية وبعض المنحوتات أثرا حسنا. أحببت لوحة “البدو”، أما منحوتات (الخصوبة) و (الأمومة) فقد تركتا لدي انطباعا رهيبا! نحن لا نلوم الفنانين، ربما لست كبيرا كفاية لفهم الفن التجريدي. أشعر وكأنني أحمق عندما أرى الحماس في وجوه الآخرين وأود أن أطرح سؤالا “أي منا هو الأحمق”؟)


(“يسارية” المعرض ملفتة للنظر، الفنانون العراقيون يواكبون حركة الفن المعاصر وهكذا يجب أن يتعلم فنانوننا.)


خاتمة

ورغم الانتقادات والخلافات التي أثارها المعرض العراقي في الاتحاد السوفيتي عام 1959 وتحديات أقامة معرض من هذا النوع، فهو يمثل إرثا فنيا مهما في التعبير عن تطلعات وخيبات الشعبين العراقي والسوفيتي من حيث الماضي والحاضر، فقد كان المعرض نتاجا لكلا المجتمعين.

لقد أظهر المعرض العراقي السياسات الثقافية المتناقضة للاتحاد السوفيتي فهي أكثر تسامحا وليبرالية عندما تُطبق في إطار الاتفاقيات الثقافية الدولية ولكنها استبدادية عند تطبيق الواقعية الاشتراكية في سياق محلي.

لم يكن النظام السوفيتي قادرا على التحكم أو التأثير على اختيار الأعمال الفنية في المعرض وكان يأمل أن يختار الفنانون العراقيون لغة فنية واقعية تكون مقبولة سياسيا، في الوقت نفسه مُنح زوار المعرض فرصة نادرة لرؤية أسلوب فني آخر متنوع يختلف اختلافا كبير عن الأسلوب الفني المحدد والمقيد في الاتحاد السوفيتي ، كانت للزوار الفرصة كذلك للتعبير عن آرائهم حول هذا الموضوع على الأقل من خلال دفاتر الزوار، وقد تباينت الآراء بشكل كبير من الدعم غير المشروط لسياسات الدولة الفنية الى ابداء الاعجاب والتشجيع للفن العراقي الحر والمستقل. لقد أدى قمع الدولة السوفيتية للتوجهات التشكيلية في الفن الى تطوير فن موحد وجامد الى حد ما بلغة واقعية، ومع ذلك لم يستطع القضاء على الفن الإبداعي أو التقدير الذي يحظى به بين الجمهور السوفيتي فقد استجاب عدد كبير من المواطنين السوفيت للمعرض المليء بالأعمال الخيالية والتجريدية الحديثة للفنانين العراقيين.

ورغم هذه البداية الواعدة، فقد تدهورت العلاقات الثقافية العراقية السوفيتية بعد سنوات قليلة بسبب سلسلة من الأحداث التي شهدها العراق كان أبرزها الانقلاب الدموي في 8 شباط/فبراير 1963 بعد أن أطاح حزب البعث العراقي بنظام قاسم الموالي للشيوعية، حيث تعرض زعيم الحزب الشيوعي العراقي حسين الرضي (المعروف باسم سلام عادل) للتعذيب والقتل الوحشي وبطبيعة الحال قد أضر هذا بالعلاقات العراقية السوفيتية لسنوات عديدة لاحقا بما في ذلك التعاون الثقافي، حيث لم يقام المعرض الفني العراقي التالي حتى العام 1971 في متحف الفن الشرقي وهذه المرة لم يتم تقديم سوى الأعمال الواقعية. ورغم أن الواقعية لم يتم تبنيها كأسلوب رسمي في أي بلد عربي فقد تم تبنيها على نطاق واسع في العراق إبان حقبة السبعينات من القرن الماضي، فعندما سيطر حزب البعث الحاكم على جميع المراكز الثقافية والفنية في البلاد وبالتالي سيطرة الفن الدعائي، كان لأسلوب الواقعية الاشتراكية التفضيل والأسبقية.


______________

* أولغا نيفيندوفا: مؤرخة فنية والمديرة السابقة لمتحف المستشرقين في الدوحة، قطر. عملت لسنوات على مجموعات خاصة وحكومية في الشرق الأوسط والأقصى ودول الخليج (الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية) من مؤلفاتها: فن وحياة جان بابتيست فانمور (1671-1737)، رحلة الى عالم العثمانيين، بارثولوماس شاخمان (1559-1614). عملت كأستاذ مشارك في كلية الاقتصاد العليا بجامعة الأبحاث الوطنية، موسكو. وباحثة في معهد الشرق (مؤسسة ماكس ويبر).