أسند ظهري إلى المكتبة وعيني على العالم

ثقافة 2023/08/03
...

 صالح رحيم

“أكتبُ مؤجلاً إيَّايَ بالكلمات”
-فرناندو بسوا-
الانتشاء بتداعي الأفكار طولاً وعرضاً، هو الغاية المتوخاة والجائزة النادرة التي ينتظرها القارئُ جراءَ مكابدته كتاباً أو أيَّ خطابٍ يلزم القراءة والتأمل والتأويل. ذلكَ النوع من القراءة تراه دائماً وراء كل نتاجٍ رصينٍ ومتماسك. إذ إنَّه يفتح على العالم كوىً هي في الحقيقة نظرةٌ عميقة إلى الداخل. أكثر منها إطلالة على الآخر. ليس هناك وصف أكثر تعبيراً عن صورة الذات من أنها ثقب أسود، يبتلع العالم، أو كل ما يقترب منه، فيحيله إلى جزء منه، فضلاً عن اختفاء العالم تماماً في أعمق مناطق الذات نأياً عن الملاحظة والانتباه. بل إنَّ هذه الفكرة، توحي إليَّ وبتطرّفٍ أحياناً، أننا عندما نكون مشدودين إلى أملٍ ما، بقدر انشدادنا إلى ذلك الأمل، نكون متمسكين بحياتنا، إلى الحد الذي فيه، تفوتنا أكثر الأحداث والوقائع حركةً وحياةً.
الحياةُ مجموعة من التفاصيل الصغيرة والمترابطة، والتي تنبض بالحركة والتغير. الخسارة كامنة في الخيارين، والربح كامن في الخيارين أيضاً.
التضحية بالوقائع الصغيرة، تعني أنّنا نربح الحياة لكن في وقتٍ آخر. أما التضحية بالأخيرة، فإنّها تتطلب القوة والقدرة على التعايش مع العذاب اليومي. إلى هذه الفكرة، يأخذنا فلورنتينو، بطل الحب في زمن الكوليرا، بكتابته رسائل غراميّة للعشّاق، وهو في الحقيقة يكتب إلى فيرمينا، معشوقته، لكنه يوقعها بأسماء عشّاق آخرين، لجأ إلى هذه الحيلة للتنفيس عن عواطفه، إنه إجراء اضطراري لعلاج القلب، لم يكن فلورنتينو عاشقاً عادياً، بل إن ماركيز نجحَ نجاحاً باهراً في اتقان خلقه لهذه الشخصية العبقرية، هذا الشخص الذي عاش خمسين سنة من الحب مؤجلاً حياته خلالها إلى ما بعد موت الدكتور خوفينال أوربينو، بطرق شتى، ملهياً قلبه بالنوم مع النساء والرسائل الغراميّة، والكتابة تحضر على مدار الرواية، بوصفها علاجاً يلجأ فلورنتينو إليه.
وعليه فإنَّ الأمرَ كله، يتم باجتراحِ عالمٍ آخر، والأخير بدوره يتم بطريقتين: أما أن تسند ظهركَ إلى المكتبة، وتدع العالم يتسلل إلى ذاتك خالصاً من كل غرض. وأما أن تكتب العالمَ خالصاً من كل غرض.
لم تكن القراءةُ في يومٍ من الأيام، بالنسبة لي، إلا جرياً بطيئاً وراء الآخر الذي يشطرني إلى نصفين، الآخر الذي يعصب عيني عن الرؤية، فتراني دائماً، أتأمل حدود العمل، حدود الكينونة، حدود الذات، من غير تمثلٍ لقرارةٍ الأشياء. تأتي الكتابة، فتأخذ بي إلى قاعِ الحلم، إلى التنازل التام عن الحرية والإرادة، لتصبح ذاتي لحظتئذ مسرحاً لحركةِ وأحداث الكون.