حاتم حسين
مهداة إلى مراكز الشرطة كافة..
تساءلَ بدهشةٍ، وهو المسؤول عن إداء وتقويمِ مراكز الشرطة، وفعالياتها..
عندما انتهى من قراءة الشكوى المقدمة إليه من قبل ذلك الرجل البسيط الذي لا يملك حولاً ولا قوّة سوى أن يطرقَ بابَ العدالة،
انتفض من كرسيه كالأسد ليعلنَ قدومه إلى المركز..
الضباط والمراتب كلّهم تجمهروا، ووقفوا بالاستعداد أمام المفتش وعصاه تتوعد المقصرين. ومدير المركز يراقب عن كثبٍ بقلق شديد، ويتساءل في نفسه، ما الخبر؟! وماذا في جعبة المفتّش؟
أقترب من الفصيل، وتفرّس في وجه ذلك الضابط الذي لم يحترم مبادئه وبدلته التي يرتديها، قال بصوت قويّ: إخواني (اسمعوا جيداً. إنّ استغلالَ المنصب، وإقامة علاقات مشبوهة مع المنحرفين سيعرضكم للمساءلة القانونية)..
في هذه المرحلة الحرجة من عمل قواتنا، لا نريد شرطيّاً أو ضابطا لا يطبق القانون. أو يبحث عن مصالحه الشخصيّة، ومثل هؤلاء سيظهرون، وينكشفون أمام أعينِ الناس، نريد شرطةً ومنتسبين مثل ورق (الرارنج) لا تصفر، ولا تتلف، تبقى قوّية برائحتها الطيبة، ولا نريد مثل هذا الضابط المرتشي.
في هذه اللحظة دخل شرطيّان، وهما يمسكان بالمجرم الهارب. شعر الضابط الذي تكفّل بالدعوة، بأنّه كان مراقباً في إجراءاته القانونية التي كان فيها قدرٌ من التساهلِ مع المتهم الذي كان يدفع له خلسةً، نكس رأسه خجلاً، وهو يرى المخلصين من أقرانه يؤدون واجبهم بهمّةٍ دون خوفٍ أو تهديدٍ، قال أحدهم: سيّدي ألقينا القبض عليه في عقر داره..
رفع المفتّش رأسه الى السماء قائلا: الحمدُ لله على هذه العناصر الطيبة والمخلصة، كان المجني عليه يراقب إداء المفتّش الذي أثلج صدره.. اقترب المفتّش من القاتل، وهمس في أذنه: هل أتصلوا بك هذه المرّة، وقالوا لك (أفلت واهرب؟) صرخ الرجل: يا ظالمُ لم قتلتها؟
كانت طفلةً بريئةً لم تتجاوز الأثني عشر عاماً من عمرها. لكنّ المجرم صرخ بوجههِ: اذهب يا عجوز أتريد أن تنسبَ إليّ جرماً لم أرتكبه؟
أنا لا أعرفك، ولا أعرف ابنتك..
حاول أن يتملّص من جريمة الشروع بالقتل، لكنّ المفتّش نادى على الشاهدين اللذين ينتظران الأمر بالدخول، كانت كاميرا الموبايل قد صوّرت الحادث بلقطات سريعة وهو يهمُّ باختطافها!
وكذلك اطلاق النار عليها من مسدس الجاني..
وكذلك حددت الكاميرا نوع السيارة، ورقمها، ولونها، عندئذٍ اِنهار القاتلُ أمام هذه الأدلةِ الدامغةِ التي لا مناصَ عنها، سقط على ركبتيه من شدّة الصدمة، وأمام الموقف نفسه سقط الضابط المرتشي هو الأخر على ركبتيه، وتمنّى لو خسفت به الأرض، وهو منكس رأسه أمام تساؤلاتِ أقرانه من الضباط والشرطة الذين كانوا يكنّون له كل الحبِّ والاحترام..
صاح المفتّش العام: قيّدوا أيديهم (بالكلبجات) وأودعوهم السجن.
ووراء القضبانِ رفع عينيهِ الى سقف الحجرة، كانت الجدران ملطخةً بالأوساخ والقذارة. حاول أن ينادي من وراء القضبان على الحارس ليطلب منه سيجارة، لكنّه تضاءل، واستشعر بالحقارة، والانحدار، هزَّ رأسه بأسفٍ شديد، كيف قضى على مستقبله وحريته بهذه السهولة وعدم المبالاة!!
كيف سوّلت له نفسه!! أن يتستّر على هذا المجرم، أ لم يكن من الأجدر له أن يقفَ ضد هؤلاء الأوغاد بالمرصاد ؟
كما وقف أقرانه من الضباط المخلصين مع المظلومين؟
تقلّب في فراشه غارقا في لجّة المتاهات، والأسئلة الداكنة، قبلَ ساعاتٍ من الواقعة كان يحقّق مع متهمين، والآن وجد نفسه في نفس الموقف متّهما، وهم يبحثون عن بارقة أملٍ للنجاة من الحساب، والعقاب، مرّ عليه بعضُ زملائهِ ليسلموا عليه.
لكنّه لم يتكلم معهم خجلا، ابتعدوا عنه، وتركوه في وحدته وشجنه، ثمَّ أدار وجهه نحو الحائط، وفكّر مليّاً في ذلك الرجل الذي أقدم على الانتحار في ذات الغرفة التي يقف فيها.