مطبخ نيتشه

ثقافة 2023/08/06
...

  محمد حاذور

بدأت قراءتي لكتب فريدريك نيتشه في سنة 2020 في بداية الشهر السابع بالضبط، بعد أن سجنت البشرية في بيوتها بسبب الوباء الذي عم المعمورة كلها. أول كتاب قرأته من كتبه "هذا هو الإنسان" بترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. هذا الكتاب من بين آخر النصوص التي كتبها نيتشه، إذ كتبه بتاريخ 1888 وهو على أعتاب مرحلة الجنون التي دخلها حتى نهاية حياته. هو كتاب من الصعب وضعه ضمن تصنيف، شأنه شأن كتب نيتشه الأخرى بما في ذلك نيتشه نفسه. يسرد فيه نيتشه بعض التعليقات والمواقف والأحداث التي مر بها. لكن حصة الأسد في الكتاب هي التعليقات على كتبه وفصولها وبعض ما حدث له أثناء وخلال كتابة مؤلفاته. ولو شئت لأسميته "مقدمة بقلم نيتشه لفلسفته".

أثناء قراءتي للكتاب الذي أشرت له، انتبهت إلى موضوعة يشير إليها نيتشه بين صفحات الكتاب كلما تقدمت بالقراءة: يقتبس نيتشه بعض الجمل من كتابه "هكذا تكلم زرادشت": "إن ثمار التين تتساقط من الأشجار، إنها طيبة وحلوة، وعندما تسقط تتفتح قشرتها الحمراء.

إنني ريح الشمال بالنسبة لثمرات التين الناضجة".

ويردفها بجملة أخرى من نفس الكتاب: "هكذا، مثل ثمار التين، تتساقط إليكم هذه التعاليم يا أصدقائي: فلتمتصوا إذا عصيرها الحلو ونسيجها اللذيذ..". 

هذه هي أول التلميحات في هذا الكتاب عن الغذاء والأطعمة والتذوق والأكل والشرب بمختلف أنواعه، وثمة الكثير من الإشارات والعبارات عن الصحة الجسدية والعقلية وصحة المعدة ومستوى فاعليتها مع ما يأتيها من طعام وكيفية إتيانه وانعكاس ذلك على صحة الجسد ومن ثم على صحة العقل والفكر.

يحتل ركن المطبخ في البيت أهمية لا غنى عنها.

وكذا يشار إلى الحضارات وتقدمها والأمم والبلدان من خلال مطبخها وتنوع أطباقه ومذاقات وجباته وطرق تحضير الأطعمة وكيفية طبخها ثم تقديمها وفي الأخير طريقة تناولها. 

ومن بين المطابخ الشهيرة والغنية، مطبخ الحضارات الشرقية القديمة أغلبها بما فيها المطبخ العراقي والمصري والشامي والطوارقي والفارسي والصيني والهندي.

إن التنوع في الأطباق وطقوس طبخها وطرق تقديمها بما في ذلك الأواني والأدوات المستخدمة، فيها الكثير من الإشارات الدالة على فكر الأمم ومستوى حيويتها ومدى اهتمامها بالعنصر الرئيسي لاستمرار الحياة، ألا وهو الغذاء. 

وثمة بلدان وأمم تتميز شعوبها بصحة جيدة برغم تقدمهم بالعمر وكذلك رشاقة الجسد ونضارة البشرة وملامح فيها حيوية واتقاد عال، وهذا متأتٍ من الغذاء وأنواعه وتنوع طرق تحضيره.

عندما كنت أتصفح وأقرأ كتاب نيتشه المشار إليه، تذكرت حادثة صحية وقعت لي عندما كنت أعمل في مكتبة دار شهريار في البصرة.

كنت مع بعض الأصدقاء نسكن في شقة، فكانت وجبة فطوري هي لفة فلافل.

هذه الوجبة تكررت في الفطور والعشاء لأيام كثيرة، وهي من كشك في الشارع بالقرب من مكان عملي.

هذا التكرار في الوجبة، سبب لي تورما أو شبه تورم في معدتي، وكانت حالة معدتي طوال أيام المرض، قاسية ومؤذية ومزعجة.

بالإضافة إلى هذه الحالة التي مررت بها، ثمة اضطرابات تحصل بين الحين والآخر في معدتي. 

وما من شك تجاه الأسباب المؤدية لهذه الاضطرابات سوى نوعية الطعام ومستوياته وطريقة التهامه ولوكه ومضغه ثم ابتلاعه.

يقول نيتشه: "في الحقيقة أنا أعترف بأنه حتى سن النضج كان طعامي سيئاً- وإذا عبرت عن ذلك بتعبير أخلاقي: كان طعاماً "لا شخصياً" و "غيرياً" بالنسبة لمعظم الطباخين والرفاق المسيحيين الآخرين.

فمثلاً طبيخ ليبزغ مع دراستي الأولى لشوبنهور (1965).

ما جعلني بشدة أنكر "إرادتي للحياة".

فمسألة أن يصبح الإنسان سيئ التغذية وتتلف معدته، هذه مسألة يبدو لي أن الطبخة السالف ذكرها تكفلت بإنجازها على نحو مذهل يدعو للإعجاب. 

لكن بالنسبة للمطبخ الألماني على العموم، لم يثقل على هذا الضمير؛ الحساء قبل الوجبة.

ما ظل يسمى في كتب الطبخ في البندقية في القرن السادس عشر، طبخ اللحم حتى تضيع النكهة والخضار مع الدهن الدسم والنشويات وإفساد الحلويات حتى تتحول إلى قوالب لتثقيل الورق. 

وإذا أضفنا إلى تلك العادة الحيوانية، عادة الشرب بعد الأكل لدى الألمان العريقين، سوف يكون بإمكانهم فهم أين يقع أصل العقل الألماني-عقل طالع من معدة مضطربة.

إن العقل الألماني يمثل عسر هضم.. إنه لا يستطيع أن يتمثل شيئاً". هذه المقالة تسلط الضوء على الفكر البشري والطعام كذلك ومدى ارتباط بعضهما ببعض، وهي نبذة شديدة الإيجاز عن مشروعي الذي أعمل عليه منذ فترة والذي يتناول الجهل والمعرفة والجوع والشبع وهضم الأفكار والغذاء بالطرق التي يتبعها الإنسان بالغذاء والشرب والأفكار والعقائد والديانات كذلك.

لأن الإنسان ينطوي على نقص ويبحث عن الكمال، وذلك من أعظم ما بالإنسان أن يبقى منطوياً على نقص وحاجة وينشد الكمال ويبحث بطرق وأساليب عن الاستعانة والاستزادة بالفكر والغذاء من أجل دفع نفسه خطوة في درب التقدم نحو حياة متزنة ومرنة.

ومن بين أبلغ الإشارات التي لمح لها نيتشه في كتابه: "..أنا مهتم بمسألة أخرى يتوقف عليها "خلاص البشرية" هي مسألة التغذية، أكثر من اهتمامي بغرائب اللاهوتيين.

فلأغراض بسيطة يمكن صياغة المسألة على النحو التالي: "كيف يمكن لكم، بالضبط، أن تغذوا أنفسكم لكي تصلوا إلى أكثر ما يمكن من القوة أو (الفضيلة) بأسلوب عصر النهضة: "الفضيلة المتحررة من الأخلاقيات"!.

والتغذية المراد بها ههنا، ليس الطعام وحده فحسب، بل الغذاء المعنوي. 

الفكر والفلسفة وتمثيلها على السلوك والواقع.

وإن طريقة جلب الأطعمة واختيار جودتها ثم الطرق التحضيرية للطبخ، وأخيراً طقوس التناول، هذا التعاطي مع الغذاء يشبه إلى حد كبير طريقة تواصلنا وتعاطينا مع الفكر والعقائد والإيمان وما نعتقد به ونتعامل معه وندين به. 

بعبارة أخرى، وهي جوهر من مواضيع مشروعي، نحن ينبغي في بداية الأكل أن نقطّع اللقمة إلى قطع ثم نقوم بمضغها جيداً حتى تصل مهروسة إلى المعدة ومهيأة لعملية الهضم.

لكن، نحن تربينا وتعودنا وتثقفنا على العجالة في التناول ولقمة تلحق لقمة دون تقطيعها ولا مضغها. 

هذا السلوك، بنسبة كبيرة، نتعامل به مع الفكر كيفما كان شكله.  نحن لا نتوقف ونتناقش ونشرح ونفصل بشرح الأفكار، إنما نبتلعها.

كتاب نيتشه المشار إليه أعلاه، حفزني وشجعني على أن أطلع على بقية كتبه ونصوصه، لعلي أعثر على إشارات تخص المعدة والعقل وما له علاقة بهما، فتفاجأت بكثرة الإشارات المبثوثة في كتبه. فعثرت على تلميحات وإشارات قوية كذلك في كتابه "شوبنهور مربّياً" وكذلك كتابه الشهير "العلم المرح" فقد افتتحه بنصوص كثيرة وجاء فيها أكثر من نص يؤشر على التذوق والطعام. وأيضاً كتابه "إنساني مفرط في إنسانيته" حمل الكثير من الشذرات الدالة على الاشتباك والإشكالية غير المرئية للعلاقة بين الغذاء والفكر البشريين.

وفي عصر ما بعد الحداثة، انتشرت مطاعم الوجبات السريعة في جميع بقاع الأرض وجميع البلدان مثل النار في الهشيم.

أول ما فعلته هذه الوجبات المسمومة، أنها لعبت بأحوال المطبخ وتنوعه وفرضت عليه أشياء دخيلة ومشوهة.

من جانب ثان، صممت هذه الوجبات بعناية فائقة على الشعور بالسعادة وارتفاع هرمون الدوبامين وكذلك من يتناولها سيصاب بالإدمان عليها، لأن خلطتها فيها مستويات مكثفة من اللذة تفوق بقية الأطباق والوجبات اليومية.

وجبات مليئة بالمواد المصنعة والمسرطنة والتي لا تناسب أبدا الجهاز الهضمي وديناميكيته.

فليس من المستغرب أن البشرية برمتها أصبحت منمّطة ومسطحة بتفكيرها وعقولها وساذجة بسلوكها وغير أخلاقية بطبائعها وسلوكياتها، فهي تتغذى على وجبات مدروسة بعناية ومصنوعة بطرائق توفر لمن يلتهمها سلوكيات مريضة وطارئة وتختفي بسرعة، فتحيلهم إلى مدمني لذة زائلة وسعادة تتلاشى بلحظات؛ كأنهم يضعون مخدرات ومهدئات مع خلطة الوجبات.

أما في ما يخص سرديات الفلسفة الكبرى والفلاسفة، فإن الكثير منهم عانى من أمراض واضطرابات واعتلال في الصحة. 

مثلاً، إن الفترات المرضية التي مر بها نيتشه كانت الدافع لأن يتمسك بالحياة. 

إذ يقول: "إن الطبيعة المرضية بشكل نمطي للمرء لا يمكن أن تتعافى، ويصعب على المرء معالجة نفسه بنفسه، وفي المقابل فإنه بالنسبة لمن يمتلك إرادة قوية فإن المرض يكون باعثاً قوياً على التمسك بالحياة.

هكذا كانت نظرتي لفترة مرضي الطويلة".

فهذه الإشكاليات بين المرض والعلاج والجوع والشبع والهضم والجهل والمعرفة والاشتباك ما بينهن، هو ما جعل نيتشه يهتم بقضية التغذية وتكون لها أهمية كبرى في كتاباته.