الدلالات الرمزيَّة في «الرحيل إلى شمس يثرب»

ثقافة 2023/08/06
...

 أحمد الشطري


تنطوي واقعة الطف بمأساتها وقيمها الفكرية والإنسانية على خزينٍ ثرٍّ من المعاني الروحيّة والصور الدراميّة والسرديات التي تجمع بين الواقعية والخيال، وتحفل بالعديد من الرمزيّات الحيّة ذات القدرة على التوالد والانفتاح على طيف واسع من المحتوى الدلالي الذي لا يعرف النفاد؛ ولذلك لم ينقطع استلهام وتوظيف رمزية هذه الواقعة وشخوصها وأبعادها الدرامية والسردية، وقد اختلفت قيمة النصوص التي تعاملت مع هذه الواقعة وشخوصها وتنوعت أشكالها، فمنها من كانت على قدر كبير من التميز والعمق والثراء الجمالي، ومنها من كان سطحياً ومباشراً في التعامل مع الموضوع أو ذا نمط تقليدي رتيب لم يستطع أن يسمو بالفكرة أو الرمز إلى المسافات التي تخلق الدهشة والإغراء الذي يحفز فكر المتلقي إلى أبعد من الجانب المأساوي.  

ولعلّ من بين تلك النصوص المميزة والتي انطوت على جدة في التعامل مع الواقعة، هو نص (الرحيل إلى شمس يثرب) للشاعر اللبناني شوقي بزيع ضمن ديوان يحمل ذات الاسم صدر في عام 1981.

لقد امتاز هذا النص بتوظيفه الدرامي للأحداث والشخوص، فقد استخدم الشاعر تقنيتي الديالوج والمونولوج في تصاعديّة بناء الحدث السردي، استدعى الشاعر شخصية السيدة زينب لتكون الراوي المشارك في سرد الحدث عبر إثارة جملة من التساؤلات التي تمنح المكان الحياة وتجعل منها عنصرا فاعلا في تنامي الحدث. (والفرات ارتدى زينة الليل/ وافترشته النجوم/ كلُّ شيء ينام على صفحة النهر،/ شمسُ القبورِ/ انكسارُ المغنين،/ رائحةُ النخلِ،/ هل يذكرُ النهرُ؟/ كانوا يسمونه وردة الميتين/ ويمشون خلف المياه إلى آخر العمر،).

في هذه المقطع يؤثث الشاعر لوحته بمجموعة من الرمزية لتمنح المكان شكلا يسهم في إثراء رمزية الحدث المرتقب، فهو عندما يلبس الفرات (زينة الليل) والمتمثلة بالظلمة؛ لتجسيد بعدين: البعد الأول يمثل لون الحداد، بينما يمثل البعد الثاني غياب الرؤية ثم يجعل من مجموعة من الأشياء ذات المحتوى الجمالي تنام على صفحته؛ لتشكل طقسا جنائزيا بانتظار الحدث الأكبر، والذي يمهّد له بمسمى (وردة الميتين)، ثم ينتقل عبر حوار مونولوجي ليرسم مشهدا عرضيا (ومازلت أرقب تلك الضفاف البعيدة عن شمس يثرب/ أو ظلّها في الغيوم/ لقد نستني المواعيدُ في أول الحزن وابتعدتْ/- كم بلغت من العمر؟/ - عشرين عاما/ ولكن يثرب تنأى/ ولا وقت للرمل).  هذا المشهد العرض سوف يمهّد لحوار آخر ولكنه حوار ديالوجي عبر مخاطبة الشخصية القائدة (يا سيدي!/ إنني أفرد الآن صدري أمام النجوم/ واسألك المعذرة/ أنادي الغيوم التي احتشدت في المساءاتِ/ كي تنحني لقدومك) في هذا المشهد ثمة تأثيث للوحة أخرى ولكن بمكونات الحزن المرتقب للفجيعة، ففي جملة (أفرد صدري) دلالة على الكشف عن ما يخبئه الصدر من مشاعر أو أسرار في حين تمثل (النجوم) رمزا لأصحاب سيد الواقعة، بينما يمثل استدعاء غيوم المساء رمزا للتحشيد الدمع، والذي سينحني (يهطل) لقدومك، هذا القدوم الذي يجر وراءه المأساة المنتظرة.

ثم ينتقل إلى تفعيل طقوس الحدث عبر تساؤل ترددي (هل أسرجُ النهر أم أتراجع؟)، هذا التساؤل الذي سيفضي إلى النتيجة المرتقبة (مولاي إني أرى يثرب الآن في القاع/ وأغمض جفني فلا أبصر النهر،/ لا أبصر القاع/ لكنني ألمح الفارس الهاشمي القتيل/ وألمح خيطاً من الدم يمتدُّ من أسفل النهرِ/ حتى يوازي النخيل.) في هذه اللوحة يرسم الشاعر صورة يثرب في قاع النهر، ليجمع بين قيمتين رمزيتين: الأولى تمثلها يثرب بمدلولاتها القدسيّة والتي ستؤدي في مسارها الدلالي إلى شخصية الإمام، ولكنه الإمام الذي تتوحد فيه كل الشخصيات الأخرى، لتصبح كل شخصية تمثل يثرب بذاتها، ثم رمزية قاع النهر الذي يمثل الصفاء، لتنتقل إلى لحظة أخرى، اللحظة المفزعة والتي تحاول شخصية الراوي (زينب) تجنبها (أغمض جفني) لكن تلك العين المغمضة تنفتح على مشهد الحديث الصادم ( لا أبصر القاع) اللحظة التي يغيب فيها الصفاء، والتي تفضي إلى الصورة المروعة (ألمح الفارس الهاشمي القتيل) ولكن هذه الصورة برغم مأساتها ستكون منطلقا لهذا الدم الذي يسمو بمكنونه الرمزي؛ ليكون رمزا للشموخ والعلو والرفعة والتي تمثلها الدلالة الرمزية للنخيل. ينطوي هذا النص على صور عدة تتعامل مع واقعة الطف عبر مسارين، يمثل الأول الجانب الإنساني المتحرر من الجزئيات الخيالية للواقعة، والثاني يمثل القيم الرمزية للشخوص والواقعة كمحفز للسمو والثورة والتحرر من ربقة الخنوع والانكسار ورفض التذلل والعبودية.

إن محاولة قراءة هذا النص الكبير بحجمه وبما يتضمنه من معطيات رمزية وفنية وجمالية تحتاج إلى مساحة أكبر مما متوفر، ولكننا نعتقد أن قراءتنا لهذا الجزء من النص يمكن ان يرسم صورة ولو مبتسرة للمتلقي تفتح أمامه فضاءات لقراءة أكثر شمولية.