سلمان شكر.. فارس العود المتصوّف

منصة 2023/08/06
...

  مرتضى الجصاني 


لا يمكن الحديث عن آلة العود في العراق والعالم العربي من دون المرور بسلمان شكر (1921 - 2007) ليس لأنه عازف ماهر وأستاذ متمكن في آلة العود ليس هذا فحسب لكنه عازف من نوع آخر، عازف متصوف ومتماهٍ مع آلته، التي يحتضنها وتتداخل مع روحه في تجليات مختلفة من الزهد والنقاء والموسيقى، سلمان شكر لم يكن ميالا لأي ظهور أو شهرة أو منصب، بل كان غارقا في لاهوت العود وموسيقاه وهو مستمتع بهذا الغرق، منذ سنوات طويلة وأنا أستمع بشكل مستمر إلى مقطوعته (مهرجان في بغداد) وأتحدث عن هذه المقطوعة بلسان أهل التصوف والذوق، وربما لذوق شخصي ارتبطت هذه المقطوعة بذكريات خاصة جعلتها تحفة تزداد رونقا كلما أعدت سماعها غير أن سلمان شكر ألف سماعيات أكثر حرفية وتقنية وإبهارا من مقطوعتي الأثيرة انفة الذكر، لكنها مثيرة ولها إيقاع خاص ومختلف كما ذكر عازف العود الأستاذ عاصم الجلبي أن سلمان شكر ألف مقطوعة مهرجان في بغداد بطريقة المتتالية أو (السويت)، وهنا نحن لسنا بصدد التحليل الموسيقي الذي يترك لأهل الاختصاص والتدريس، لكن كمتذوقين للموسيقى بصورة عامة ولآلة العود بصورة خاصة يحق لنا أن نذوب في موسيقى سلمان شكر، ونحاول أن نرصد ونعرف تفاصيل موسيقاه وأثرها فيه وأثره في موسيقاه، موسيقى سلمان شكر هي انعكاس لشخصيته المتصوفة الزاهدة البعيدة عن الأضواء، لم يكن شكر من عازفي العود خلف المغني، ولم يعزف لأجل التطريب والتغني والتمايل مع العود، بل كان يعزف وكأنه في حالة تعبد وحالة من التجلي في حضرة العشق مستلهما من مقطوعات عبد القادر المراغي حالة الخشوع والذوبان والمراغي (1350 - 1435) موسيقار من القرن الرابع عشر الميلادي، له مؤلفات موسيقية وموشحات وما عثر عليه الأستاذ سلمان شكر من خلال بحثه هو عدد من القطع الموسيقية المتفرقة الخالية من الكلمات، وربما كما يقول الأستاذ سلمان شكر أن هذه القطع الموسيقية مكتوبة لموشحات، لكنها فقدت الكلمات وبقيت النوتة الموسيقية، وأعاد عزفها الأستاذ وأخذ المستمع في رحلة موسيقية إلى القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي، كما كان مهتما في البحث في كتاب (الأدوار) لصفي الدين الأرموي البغدادي، وهذا البحث يعطي نكهة ومذاقا بغداديا عريقا لآلة العود، تنعكس هذه النكهة البغدادية العباسية والعثمانية على موسيقى سلمان شكر، الذي بقي محافظا عليها وباحثا فيها ومطورا في أنماطها، حيث عزف البشارف والسماعيات العثمانية بذوق العارف المتصوف، وسلمان شكر كان صديقا لكثير من الفنانين من صنوف مختلفة وهي مكملة لبعضها، لذلك كانت ثقافته منفتحة على عالم أرحب وأوسع ساهم في إثراء الثقافة الموسيقية وفلسفتها، ومن لطيف القول إن سلمان شكر من القلائل، الذين عزفوا على أعواد من صناعة الأسطى محمد علي العجمي (1930 - 2002)، حيث صنع والده علي العجمي أعواد الشريف محيي الدين حيدر. ويذكر ريتشيل ويلسون أن عود سلمان شكر، الذي صنعه الأسطة محمد علي هو شبيه بأعواد مانول التركية، كما تظهر الزخارف وقياس القمرة وطول الزند وهو مصنوع من خشب التنوب القوقازي والظاهر أن محمد علي بذل جهدا كبيرا في صناعته واهتم بأدق التفاصيل، حيث صاحب هذا العود سلمان شكر طيلة سنوات عشقه كلها الى أن أغمض عينيه وتسامى إلى عالم أرحب وأكثر روحانية، كما كان يريد دائما، وعازفو العود يعرفون قيمة سلمان شكر الموسيقية ومقامه في هذا المجال وبعده وخلوته في حالة التصوف التي يفضلها عن صخب الشهرة وهذا تعريف بسيط بالأستاذ سلمان شكر كما ذكرته المصادر التي تناولت سيرته: 

- ولد سلمان شكر في بغداد عام 1921 وهو سلمان شكر داود حيدر محمد علي، لم تكن ظروف البيت الذي نشأ فيه مواتية ومُشجعة على تعلم الموسيقى وامتهاِنها لذا فقد فقدَ وهو في بداية تعلمهِ عدة أعواد من قِبل والدهِ، وكان ينزوي في مكان منعزل من البيت لغرض التدريب على آلاته العود. 

- كان قبل دخولهِ للمعهد عازفِاً على آلة الكلارنيت في الجوق الموسيقي الذي أسسهُ الرائد الموسيقي حنا بطرس. 

-التحقَ بأول دورة في معهد الموسيقى عام 1936 حيث درس آلة العود والموسيقى الشرقية على يد الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر بن علي وتخرج عام 1944 بعد أن ترك الدراسة لمدة ثلاثة أعوام بسبب ظروفهِ العائلية. 

- عين أُستاذاً لآلة العود في المعهد في عام 1947، وظل مُحتفظاً بهذا المنصب لمدة ثلاثين عاماً.

- تخرج على يده العديد من الموسيقيين العراقيين كالأساتذة (علي الأمام ومعتز محمد صالح البياتي وحبيب ظاهر العباس والمرحوم الأستاذ حسام الجلبي وعازف العود اليمني جميل غانم ).

- أسس في أواسط الستينات (خماسي العود البغدادي)، الذي ضم إضافة إليه، كلاً من آرام تاجريان "كمان أول" وآرام بابوخيان "كمان ثانٍ" وجورج مان "كمان أوسط" وحسين قدوري "شيللو".

- شغل في وزارة الثقافة والأعلام ولعدة سنوات درجة مستشار فني.

- تولى رئاسة اللجنة الوطنية للموسيقى لعدة سنوات ومثل العراق في مؤتمرات وندوات ومهرجانات كثيرة .

- له تسجيلات متعددة في دار الإذاعة والتلفزيون العراقية، إضافة إلى تقديم العديد من العروض المنفردة لآلة العود في (الصين، إيران، الاتحاد السوفيتي سابقا، مصر، المانيا، إنكلترا، والولايات المتحدة الأمريكية) .

- ظل محافِظاً ووفياً على نمطية وتفكير أستاذه الشريف محيي الدين حيدر، ولم يخرج عن هذه الدائرة متأثراً بأسلوبه المُشبع بالروحية التركية أداءً وعزفاً وتعبيراً. 

- تفرغ للبحث في جامعة (درهام) في انكلترا مع المستشرق البريطاني البروفسور ( جون هيوود) لغرض البحث في كتاب (الأدوار) للموسيقي والعالم بالموسيقى (صفي الدين بن عبد المؤمن الأرموي البغدادي 1216 - 1294)، ويطلعنا الأستاذ علي الشوك بكتابهِ الموسوم (الموسيقى بين الشرق والغرب) عن مدى اهتمام وولع الأستاذ سلمان شكر بهذا الجانب من التراث فيقول: ومن الجدير بالذكر أن الفنان سلمان شكر قام بترجمة أولية للجزء المتعلق بالموسيقى من مخطوطة (درة التاج في غرة الديباج). كما قدم قراءة جديدة لمدونة (يا مليكا به يطيب زماني) اعتمد فيها نغمة (مي) لمطلق الوتر، بدلا من (دو) الذي أعتمده المستشرقون، وكان بذلك أقرب إلى روح النص وقام بعزفها أيضا. 

- في الثمانينيات من القرن الماضي وأثناء تواجده في لندن، قام بعمل مشترك مع البروفيسور هيوود ألا وهو كونشورتو العود مع الاوركسترا، والتي تم تقديمها بالتعاون مع ال بي بي سي ولندن سمفوني أوركسترا.

- سافر الى تركيا في ستينيات القرن العشرين، البلد الذي يتنفس الموسيقى، ويمتلك المدارس المتعددة في فن العزف على العود، دعا الى اقامة كونسرت منفرد، وعزف بدعوة من مسعود جميل بك، مدير اذاعة اسطنبول عزفاً منفرداً، وعمل مع عازف القانون، المبدع (نجدت بالو)، وقدم معه الثنائيات في الاذاعات التركية.

- من مؤلفاته الموسيقية ذات البعد التعبيري: (الغجرية 1944/ وادي الموت 1949/ من وحيها 1952/ حورية الجبل/ مهرجان في بغداد/ سماعي ماهور 1949/ سماعي رست 1972/ بشرف شد عربان 1974/ سماعي نهاوند 1958). 

- يمتاز أسلوبه في العزف على آلة العود بإضفاء مسحة صوفية على عزفه مع استخدام رقيق ومرهف للمِضراب، كذلك استخدام أسلوب الزحف عند العفق على مساحة ضيقة للصوت الموسيقي المنتج، كما يقوم في أحياناً كثيرة بالضرب على أوتار عدة في نفس الوقت، لرُبما تأثُراً بإبراهيم الموصلي، يقول الأستاذ علي الشوك في كتابهِ السابق الذكر:  "ويتحدث سلمان شكر عن مخر الأوتار عند إبراهيم الموصلي، أي العزف على جميع الأوتار المطلقة مرة واحدة".

- في آخر كونسيرت اقامه في بغداد عام 2001، أذهل الحاضرين بلباقته ورشاقة عزفه وحضوره المذهل وسيطرته على المسرح، وسط صمت ولهاث الجمهور المشدود الى حركات ريشته واصابعه على البورد. وفي نهاية إحدى المقطوعات وقف سالم حسين وسط القاعة ونادى: (كنت فارس العود، وما زلت كذلك طوال الســــنين). توفيَّ العام 2007 وفُجعت الموسيقى العربية برحيل أحد أعلامها البارزين، الشخصية الأخيرة من تلامذة الشريف محيي الدين حيدر.