عبير سليمان: الشعر الحقيقي وصفة سحريَّة ضد الرداءة
حاورها: أحمد عساف
الشاعرة السورية عبير سليمان. واحدة من الأسماء الشعرية المهمة، في المشهد الشعري السوري والعربي. تنسج الشاعرة من حكايا أيامها قصائد ترد على الأيام بحزنها وفرحها، قصائد تنتمي لخصوصيتها وحساسيتها الشعرية، لا تقيم الشاعرة كرنفالا لولادة مجموعة شعرية لها، بقدر ما تسعى للقيا قصائد جديدة تختمر في محرابها لتلد قصائد جدية. منذ صدور مجموعتها الشعرية الأولى (رسالة من بيدق ميت) في بغداد.
نجحت الشاعرة في أن تؤسس لصوتها الشعري كل هذه الخصوصيّة. والشاعرة عبير سليمان. مهندسة مدنيّة. صدرت لها خمس مجموعات شعريّة أولها صدر في بغداد بعنوان رسالة من بيدق ميت - (ونفخ في الناي، لن أسرق البحر، ركاب الزوارق البحرية، القتلى يطرقون الباب)
* ما جدوى الشعر في هذا الزمن الرديء؟
- بكلّ بساطة، ومن دون شرحٍ طويل؛ الشعر الحقيقي بمعانيه السامية وصفةٌ سحريّةٌ ضد الرداءة.
لا يطرح الشعر نفسه كقرارٍ أو خطّة، إنّه طريقة أو طريق حياة، تبدؤه بالحدس والإلهام وتسلكه من دون أن تكون منشغلاً بنهاية الرحلة:
* هل سيوصلك إلى جدارٍ أصمّ أم سيدفعك إلى المزيد من الترحال؟
- الشعر، لأنّك فجأةً ومن دون سابق إنذارٍ ألفيتَ نفسك داخل متاهةٍ، وعليك أن تشحن أفكارك وعواطفك في محاولةٍ للعثور على نافذة أو باب للنجاة منها. أحياناً تعثر على النافذة أو الباب، لكنك تختار تجاهلهما تماماً
* أول دواوينك الشعريّة (رسالة من بيدق ميت) صدر عن دار الروسم في بغداد. كيف كانت البداية من بغداد؟
- أكتب لسوريا وعنها وفيها، وسأظل أكتب مِن أجلها طوال حياتي، وأنا، حين أحبها كما يليق بها، سأحب معها العراق ومصر ولبنان وباقي البلاد العربية، التي يعيش فيها أناسٌ يعنون لنا ويشبهوننا في الفرح والأحلام والآلام والملامح. وهذي المحبة ليست مجرّد حبر على ورق، في الحقيقة لديّ رغبة بأن يصدر لي ديوان في كل بلد عربي إن أمكنني ذلك، صحيحٌ أن الشاعر يحمل جنسيّةً يعتزّ بها، لكنّ الكتابة عابرة للجنسيات، تعزز الأواصر الإنسانية وتبني الجسور، وهذا جوهر الشعر.
* في مجموعتك الشعرية الأخيرة: (القتلى يطرقون الباب) ما الجديد الذي أضفتيه لدواوينك الشعرية السابقة؟
- لا أستطيع الادّعاء بأنَّ المجموعة جاءت بِخَلقٍ جديد على مستوى مشروعي الشخصي الإبداعي، أو أضافت تجديداً تقنيّاً إلى أسلوبي الكتابي، فمعظم القصائد التي اخترتُها لها مكتوبة قبل سنواتٍ من صدور دواويني السابقة. كان الهدف أن تجد تلك النصوص بيوتاً دائمة على الورق، عوضاً عن كونها مبعثرة وتائهة في عتمة الدهاليز الإلكترونية وعلى مسودات الكراسات التي ترزح تحت الغبار والنسيان. إنما ثمّة قصائد فيها تحررت مِن المنع الذي طالها سابقاً لأسباب رقابيّة ذات طبيعة خشبيّة.
* ذات حوار قلت: “قصيدة الشعر المنثور تاريخيا أقدم من الشعر الموزون. هل تفسرين لنا ذلك؟
- لا يحتاج الأمر تفسيراً كثيراً، بعضنا يقرأ التاريخ الإنساني ويهتمّ بالموروث البشري بأشكاله الفنيّة كافة، وغيرها، بدءاً مِن أول منحوتةٍ على الصخر أو أوّل رُقُمٍ حجريٍّ مكتوب بالأبجديّة الأوغاريتيّة أو المسماريّة السومريّة أو الهيروغليفيّة الفرعونيّة، من دون إهمال ثقافة أو حضارة لصالح غيرها، وهذا يعني أن نحترم ما قدّمته الحضارات البشريّة الأولى في هذا السياق، السورية والعراقية واليونانية على سبيل المثال، ومعظم من قرأ بشكلٍ وافٍ عن تاريخ تلك الحضارات، بطبيعة الحال سيدرك أنّ الشعر كان موجوداً منذ البداية؛ في سوريا والعراق خصوصاً على هيئة نثر، يحمل اللغة المجازية العالية والصور الفنية الخلّابة والاستعارات البلاغية والمشاعر المؤثرة والخيال المدهش.
لكنّ بعضنا لا يعترف بأيّ أثرٍ أدبيٍّ قبل مجيء الفراهيدي ببحوره وأوزانه، وآخرون لا يجرؤون على النظر إلى التاريخ قبل الأديان السماويّة.
* لم يسهم النقد العربي على فرز أصواتٍ شعريّة لافتة. ما رأيك؟
- النقد العربي في العموم وليد الثقافة السائدة بدوره، من ثم، كان وما يزال وسيبقى منشغلاً، حتى إشعارٍ آخر، بأرباب الشعر ونجومه، لأنّ فكرته عن الشعر سجينة طابعٍ أو إطار معيّن، تحاصرها الكليشيهات وتحكمها سلطة الأصنام القديمة والحديثة، فليس غريباً بعد هذا أن يقتصر المشهد على الأسماء الشهيرة، لا سيما في ظل غياب التظاهرات الثقافية التي تهتم بالأصوات الجديدة والحساسية الشعرية المعاصرة، فكلّ التظاهرات الحالية قائمة على التكريس للمكرّس أو الاحتفاء بالنجوم وأصحاب الاعتبارات الإعلامية.
* ماذا يعني بُعد المبدع عن العاصمة؟
- لا شكّ بأن البعد عن أيّ مركزٍ يحفل بالمناسبات الأدبية والفنية المختلفة والأشخاص الفاعلين في المجال الثقافي بكافّة أطيافه مِن شأنه أن يفقدك الكثير من الفرص، الفرص الكفيلة بأن تلقي الضوء عليك وأن تروّج أكثر لتجربتك وتزيد التسهيلات لنشر مشروعك ودعمه، لكنّ قناعتي تغيّرت مع الوقت، تحديداً عندما اكتشفتُ أنّ الأضواء الباهرة قد تكون مضللةً في كثيرٍ من الأحيان، وقد تحرف التجربة الإبداعية عن مسارها وتشغل الشاعر بما يأخذه إلى حيث التملّق أوالزيف أو الاستعراض أو تقليد مسارات الآخرين للنجاح على غرارهم، بينما الشعر يريدك أن تكون فريداً، حرّاً معافى مِن كلِّ هذا، في الظلّ الذي يمنحك مساحةً هائلةً للتأمل والكتابة بعيداً عن الضوضاء، فيما لو كنت تحبّ الشعر حقاً، لا تقتصر أحلامك على أن تحمل لقب شاعر.
إنني أعيش في مدينةٍ تُطلّ على البحر، وهذا يجعلها عاصمةً مجازيةً للشعر، أو لنقل ملكةً غير متوّجة على مملكة مِن ماء وسماء، بِكُلّ ما يسبح ويطير ويغرق بينهما.
* لم يعد الشعر ديواناً للعرب. هناك من يرى أنّ الرواية احتلت مكانه؟
- لا أعتقد أن الرواية العربية احتلّت مكان الشعر، أو حتى تبوّأت مكانةً ذات أثر كبير، سواء على القارئ العربي أو الأدب العالمي، لأنّ رؤية الكثير من الكتاب لم تتبلور بعد حول صيغة الرواية العربية أو دورها أو وظيفتها، وللأسف؛ أصبح للجوائز المالية سُلطةٌ سلبية على الطريق الذي سيسلكه الروائي، بمعنى أنها تقوم بتوجيهه سلفاً ليكتب عن شأن معيّن أو قضية من دون أخرى أو يساير أعرافاً موجودة، فلم يعد الكاتب يمتثل لصوته واختلافه وآرائه الخاصة في كثير من الأحيان، بل أصبح الابن المدجّن لهذه المؤسسة الأدبية أو تلك طالما أنّ هذا التدجين يضمن له الضوء والجوائز المجزية.
* إلى أي حدٍّ أسهم الكتاب الإلكتروني في ابتعاد القارئ عن الكتاب الورقي؟
- القارئ الأصيل يُفضّل أن تكون في بيته مكتبة ورقية، يتناول منها الكتب التي يريدها في أيّ وقتٍ يشاء، أو يقرأ ليخطّ تحت فقرات أحبّها فيوقّع مروره على الكتاب، وربما يستعيد تلك العلاقة معه في وقتٍ لاحق، كمن يصافح صديقاً أو حبيباً بعد غياب، هذا لا يمكن تعويضه أبداً في الكتاب الإلكتروني.
* كثير من الشعراء اتجهوا نحو كتابة الرواية. هل ستفعلين ذلك؟
- لا أستطيع التنبؤ بأمرٍ كهذا، لأنّني أطاوع رغبتي في الكتابة ولا أخطط لشكلٍ أدبيٍّ محدّد أو مسبق، فإن شعرتُ يوماً بأنّ لديّ الرغبة والزخم والقدرة على كتابة روايةٍ أرضى عنها وأشعر بأنها جديرةٌ بالنشر، سأفعل، لكنّني، حتى الآن، وفية للشعر.