مهند الكوفي
لم يعتقد الإنسان البدائي أنّ الموت فكرة طبيعيّة، وأوعزه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة. في أساطير سكان بريطانيا الجديدة الأصليين، يعتقدون أن الموت نتيجة خطأ الآلهة. وبُهت الانسان البدائي لبعض الخوارق التي يراها في نومه وفزع فزعا شديدا حين شهد في رؤاه أولئك الأشخاص الذي يعلم علم اليقين أنهم فارقوا الحياة، لقد دفن موتاه بيديه استعاض عن عودتهم. وفي بعض البلدان كان الإنسان البدائي يخرج الجثة من الدار خلال ثقب في الحائط، لا من بابها؛ ثم يدور بها حول الدار ثلاث مرات دورات سريعة، لكي تنسى الروح أين المدخل الى تلك الدار فلا تعاودها أبدا.
هذه الوقائع التي صادفت الإنسان البدائي أقنعته بأن كل كائن حي له نفس أو حياة دفينة في جوفه، يمكن انفصالها عن الجسد إبان المرض والنوم والموت. وجاء في كتاب (بوبانشاد) في الهند القديمة (لا يوقظن احدٌ نائماً إيقاظاً مفاجئاً عنيفاً لأنّه من أصعب الأمور علاجاً أن تُضل الروح فلا تعرف طريقها الى
جسدها).
لا تقتصر الروح على الإنسان فحسب، بل أن لكل شيء روحا، والعالم الخارجي ليس مواتا ولا خلوا من الإحساس، إنّه كائن حي دافق في الحياة. وهكذا تصور الناس الأشياء والحوادث مشخّصة قبل أن يتصورها جوامد مجردة. بمعنى آخر: سبقت الديانات حب الحكمة، وهذه الروحانيّة في النظر إلى الأشياء هي ما في الدين من شعر وما في الشعر من دين، وقد تشاهدها في أبسط صورها في عين الكلب على اعتبار أن الحيوانات تحتفظ بالوعي الفطري الأزلي.
إذ يراقب ورقة حملتها الريح أمامه فظن أزاءها أن لها روحا تحركها من باطنها، وهذا الشعور الأسنى نصادفه في أعلى درجاته عند الشاعر إذا ما كتب قصيدته. في رأي الإنسان البدائي ورأي الشعراء عبر العصور أن الجبال والأنهار والصخور والأشجار والسماء كلها أشياء مقدّسة لأنّها الدلالات الخارجيّة المرئيّة للنفوس الباطنيّة الخفيّة. كما ظن الإنسان في العراق القديم، أنّ الأرواح لا تموت بل تتجسد في المطر والنجوم وحتى في ثمرات الشجر. أتحدث هنا عن الوعي الفطري عند الإنسان البدائي ومثيله عند الشاعر، بمعنى: لا يحجب مخيلة الشاعر والإنسان البدائي ولا حتى الحيوان أي غطاء يمنعه أن يجعل الأشياء تتحرك
وتعيش وتموت.