جماليات ما قبل السرد

ثقافة 2023/08/09
...

عبد علي حسن

   * في مقال سابق لي نشرته ثقافية جريدة الصباح العراقية بتاريخ 3 / 11 / 2022 وكان تحت عنوان (في السرديات المهجورة)، حاولنا فيه تكريس (السكيتج القصصي) بوصفه تمريناً قصصياً أو تخطيطا لنص سردي قادم / مسودّة، أراد له القاص العراقي محمد خضير أن يكون بحسب دعوته نوعاً سردياً يدخل في خيمة السرديات / علم السرد، الذي بدأ مع تودوروف عام 1969 بعد أن استضاء بكتاب (تشكل الحكاية) أو مورفولوجية الحكاية الخرافية للناقد فلاديمير بروب عام 1928 ، فقد اهتم علم السرد الحديث بكل السرديات من خارج الأشكال السردية الفنية المعروفة كالرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، إذ تم اعتبار الأمثال والمذكرات واليوميات وحكايات الجن والخرافة والسيرة من السرديات التي من الممكن دراستها واستنباط شعريتها الداخلية، وإزاء ذلك فإن السكيتج القصصي الذي أعاد القاص محمد خضير وهجه وإنتاجه بشكل معاصر ومحدث عبر مجموعة من السكيتجات والتمارين القصصية، يعد من السرديات المعاصرة التي من الممكن أن تأخذ مكانها إلى جانب السرود المألوفة وغير المألوفة، إذ إن هذا النوع السردي لم تألفه السردية العراقية والعربية ماعدا بعض السكيتجات التي كتبها المنفلوطي وجبران، أما على المستوىٰ العالمي فإن لماركيز وسارامانجو وسواهما القليل من كتب في هذا النوع الذي لم يكن الهدف من كتابته هو ظهوره كنوع أدبي وإنما كتخطيط أولي لكتابة نص سردي لاحق، لذا ففي ما يقوم به القاص محمد خضير والاستفادة من المفاهيم الجديدة لعلم السرد، فإن (السكيح القصصي) يمتلك مشروعية عدّه نوعاً سرديا يقف إلى جانب أنواع عديدة من السرود التي تحيط بنا من كل صوب، وإذا كان مفهوم هذا النوع السردي هو التخطيط لما سيكون عليه النص السردي اللاحق قصة كان أو رواية فإن الاصطلاح المناسب له -- كما أرىٰ --  هو (ما قبل السرد) الذي انفردنا باجتراحه ، وإذا كان (ما بعد السرد) قد اختص بالكيفية التي كتب بها النص ذاته (الانعكاس الذاتي) مصادره / الوثائق التي شكّلت مادته الحكائية وسواها من الوسائط اللغوية والحكائية التي كونته ، فإن (ما قبل السرد) سيكون ما يمكن أن يكون عليه النص لاحقا، أي النص السردي في صيرورته القبلية، وبذلك فقد اكتملت الخطّية الثلاثية لإنجاز النص السردي، المتكونة مما قبل السرد والسرد وما بعد السرد، وسيكون الـ(سكيتج القصصي) (زن) للقاص العراقي محمد خضير المنشور على صفحته الخاصة، عينة لبحثنا الذي من أهدافه الوصول إلى جماليات (ما قبل السرد) بعدّه تمريناً قصصيا يسعى إلى وضع تخطيط أوّلي لما سيكون عليه النص السردي لاحقاً .
وقبل الشروع بتحليل النص لابد من الإشارة إلىٰ أن السرد الذي أعنيه في اصطلاح (ما قبل السرد) هو نقل الأحداث أو الأخبار سواء كانت من صميم الواقع أو من نسج الخيال أو متنوعة من الاثنين معاً، وذلك ضمن إطار زماني ومكاني، ووفق حبكة فنية متقنة ومحكمة تجذب المتلقي للاستمرار بمتابعة الأحداث المسرودة، وتشكّل هذه الأفعال ما نطلق عليه (النص السردي) رواية أم قصة قصيرة وسواهما من المسرودات الفنية .
  يحيل عنوان السكيتج القصصي) (زن) للقاص محمد خضير إلى فلسفة الزن ، فـ (زن) zen أو (زازن) zazen هي رياضة روحية تابعة للمدارس البوذية اليابانية، وهي تعني ببساطة التأمل، لأن هذه الممارسة تفضل ممارسة الشخص للتأمل وهو جالس لينقله هذا التأمل في نهاية المطاف إلى حالة الصحوة وهو ما تعنيه كلمة (زن).
وتمارس هذه الرياضة لمواجهة التوتر النفسي الذي يتعرض له الفرد في خضم صخب وسلبية الحياة اليومية المعاصرة، لمكافحة أسئلة الكائن البشري العادية حول الحياة والموت بصورة هادئة وسلمية ثم الحصول على السلام الداخلي ومعرفة الذات الجوانية وتوسيع الذهن بشكل إيجابي، ولم تكن هذه الإحالة والإشارة منقطعة الصلة بمتن النص، بل بالإمكان عدّها البؤرة التي تتجمع عندها حيثيات الأفعال بين (نون) وزوجته، وبما تشكّل من رؤية ستجد لها مكاناً مركزياً في السرد اللاحق /القصة .
ويبدو أن فلسفة (الزن) وما ذهبت إليه وعبر مثل الصياد الذي ساقه (نون) لامرأته، كان الموجه الكتابي الأول السكيتج/المسودة ، مما دعاه إلىٰ تأمل فكرة الانتقام الإبدالي، إذ عدّ جثة الحيوان النافق التي عبرت إلى مكان مجهول خلف البيت بمثابة جثة غريم له يتمنى أن يجده طافياً على سطح النهر، في الوقت الذي لم تهتم فيه المرأة إلى ملاحظة حبيبها (نون) حول فلسفة الزن ولا إلى ما باح به من مكنوناته .
إلّا أن هذا البوح على الرغم من الإشارة إليه فإنه مؤجل لحين تحول النص من المسودة إلى النص الطباعي، وربما سنشهد بوحاً كاملاً على مستوىٰ الفعل السردي وامتداد علاقات (نون) بالآخرين والتعرف على مسوغات الانتقام الإبدالي الذي افترضه النص الماقبلي/المسودة التي أشارت إليه إشارة سريعة وغير مكتملة الدلالة والإحاطة بالدوافع ( لكنها سمعت الرجل يفضي بما في صدره مرتاحاً لما شاهداه تواً، وكأن شيئاً كان يقلقه في السرّ قد أُزيحَ تماماً ) ففي النص المستل هذا بياضات كثيرة على الكاتب أن يملأها في النص الطباعي، فصدر الرجل يضمرُ أمورا لم تذكر هنا، وإذ وضع الكاتب هذه الإشارة لتشكل في ما بعد بؤرة مركزية في نصه السردي اللاحق، كما أن اسم الرجل الذي أشار إليه بالحرف (نون) ربما سيتخذ اسماً صريحا ذا دلالة ما، فضلاً عن الأفعال المضارعة التي استخدمها الكاتب لتؤشر وضعا مستقبلياً ومستقراً في زمنية السرد، ومن الممكن ملاحظة توالي هذه الأفعال بصيغة السيناريو الذي على الكاتب بعد أن تم تثبيت الأفعال التي ستمارس أفعالاً سردية تشكّل الحدث السردي لاحقاً، أي أن هذه الأفعال ستمتدُّ إلى تخليق أحداث سردية متخيلة في النص السري اللاحق، فالأفعال في هذا المقام تقوم بدور المنبه، الذي على الكاتب أن يمتد عنده في كتابة نصه السردي، وهنا تتبدّى جمالية هذا النص الماقبل السرد، إذ يمثّلُ اللحظة الإبداعية التي ينطلق منها الكاتب، وحسبنا أن نتذكر بهذا الصدد ما كان يقوم به شعراء الحوليات في عصر ما قبل الإسلام، إذ كانوا يكتبون النص في أربعة أشهر ثم يهذبونه في أربعة أخرى وينشرونه في الأربعة الأخيرة، فالأربعة الأولىٰ تمثل ما قبل النص أي قبل أن يكتمل، فيقوم الشاعر بحذف وإضافة ما يمكن أن يجري عليه من تعديل حتى يستوي نصاً متكاملاً، والأربعة الأولى هذه تمثل اللحظة الإبداعية التي يحضر فيها شيطانه الشعري وهو ما يمثل الدفق الأول للموهبة الشعرية قبل أن يتدخل العقل والمنطق في الأربعة الثانية ليشذبه من الزوائد، ولاشك بأن جميع الكتاب على اختلاف اختصاصاتهم يمرون بهذه اللحظة الإبداعية التي يعبرون عنها بكتابة مسودة النص / ما قبل النص، التي لم يهتم بتدوينها وتثبيتها الكتاب للأسف كنص إبداعي أو كنوع سردي، بينما ذهبنا إليه في رصدنا لأهميته في الكشف عن الخاصية الإبداعية الأولية / المادة الخام للنص الطباعي لاحقاً، وبنفس القدر من الأهمية يمكننا الحديث عن سكيتج/ مسودة الرواية أو القصيدة بعدّها نصاً ما قبل النص الطباعي، ولا أحسب أن الكثير من الروائيين والشعراء ممن يحتفظ بهذه المسودات ويهتم بها لأنها تمثل تلك اللحظة الإبداعية الهاربة التي تستوجب اقتناصها وتثبيتها بعدّها نواة النص الأولى، لذا صار من المناسب أن نصطلح على هذا النوع بـ(ما قبل النص) الذي ينبغي الاهتمام به من قبل الكتاب والشعراء وكذلك النقاد لأنه يمثل الخطوة الأولى صوب كتابة النص الطباعي، وبذلك ستكتمل خطيّة الكينونة الكتابية للنص والمتكونة مما قبل النص والنص وما بعد النص .
وعودة إلىٰ صلب عنوان ورقتي هذه فإن ما قبل السرد هو الأثر الأول للفعل السردي الذي ينطوي على تفعيل القدرة الإبداعية في دفقها المبكّر لوضع سيناريو /سكيتج/تمرين/مسودة ذات أثر نفسي تذكيري بمعاناة الكتابة في لحظاتها الأولىٰ لتشكّل الهيكل الذي سيقوم عليه النص الطباعي في صورته النهائية، وبذلك فقد استحق أن يتصف بالنوع السردي .