الشرنقة والأجوبة مجهولة الأسئلة

ثقافة 2023/08/09
...

جودت جالي

 قرأت في مقالٍ في الغارديان أنَّ الصين، ذات المليار ونصف المليار من البشر تقريباً، هي الثالثة عالمياً مع الولايات المتحدة وبريطانيا في طباعة الكتب، وتطبع سنوياً 200 ألف من العناوين الجديدة والطبعات الجديدة، متقدمة على روسيا واليابان وألمانيا، ولديها فقط من دور النشر الحكوميَّة 570 داراً عدا المشاريع الخاصة التي تفوقها عدداً ربما، كما لديها أسواق كتب يسمونها في الصين “مدن الكتب”، ومدينة بيجنغ مثلاً فيها 700 مستخدم وعلى رفوفها 230 ألف عنوان، ويزدحم القرّاء على مدن الكتب أيام العطل صباحاً ينتظرون فتح أبوابها وأكثرهم من الشباب (بعكس الوضع في الغرب)، وبضمنهم جيل الثورة الثقافيَّة الذين يقرؤون على الأكثر أعمالاً كلاسيكيَّة.

يصف بعض النقاد الغربيين الحركة الثقافيَّة الحاليَّة في الصين بأنها ثورة ثقافيَّة جديدة، إذ يوجد عدد لا يُحصى من الكُتّاب والشعراء والباحثين. إذا أخذنا في الاعتبار كلَّ ما تقدَّم وما لا يسعنا ذكره يكون واضحاً لدينا الصعوبة البالغة على أيِّ كاتب شاب أنْ يحظى بشهرة وتصبح كتبه من صنف “الأكثر مبيعاً”، غير أنَّ تشانغ ييران ليست فقط كاتبة لكتب من هذا الصنف صينياً بل هي كاتبة عالميَّة أيضاً وهي لا تزال في الثلاثينيات من عمرها تحظى قصصها وسلسلة رواياتها بشعبيَّة واسعة.
يقول مترجم رواية (الشرنقة) إلى الإنكليزيَّة الكاتب والمسرحي السنغافوري جيريمي تيانغ في مقدمته إنَّ تشانغ ييران صوت بارز من أصوات ما بعد ثمانينيات القرن الماضي، وفي حين أنَّ عملها الأول (الطير الموعود) رواية فنطازيَّة عن امرأة عمياء تبحث عن ذكرياتها الضائعة فإنَّ (الشرنقة) 2016 عمل أكثر واقعيَّة عن زمن الثورة الثقافيَّة الماويَّة التي تناول آثارها المؤلمة جيل كامل من الأدباء مكونين صرحاً أدبياً يُسمى “أدب الندبة” كما تحدثوا عن زمن كان يؤخذ فيه الملايين من الآباء والأمهات ليعملوا في المزارع والبراري القصيَّة ويتركوا أطفالهم مع الأجداد. غير أنَّ تشانغ وُلدت بعد الكارثة ببضع سنوات وترعرعت بين نثارها وقدّر لها أنْ تكون من الجيل الذي جاء نتيجة سياسة الطفل الواحد لكلِّ أسرة، فعاش كلُّ طفل بلا أشقاء شاعراً بالوحدة وكان لطفولة من هذا النوع وذكرياتها نتائجها.
في العام 1993 كانت شخصيتا الرواية الرئيستان الفتاة جياكي والفتى غونغ في الثانية عشرة من عمرهما، يعيش كلُّ واحد منهما في بيت جدِّه. إنَّ جياكي هي حفيدة لي جيشنغ وهو جرّاح قلب ماهر وشخص محبوب عند عامة الناس. أما غونغ فحفيد شنغ شويي الذي كان يوماً مدير مستشفى قوياً، والذي هو الآن، منذ ستة وعشرين عاماً، في حالة غياب عن الوعي تقريبي. خلال الثورة الثقافيَّة عذّبه وضربه الحرّاس الحمر، ثم اقتحم عليه زنزانة احتجازه في العام 1967 شخصان وقاما بطرق مسمار في جمجمته لكي يموت موتاً بطيئاً (هذه حادثة حقيقيَّة كما صرَّحت المؤلفة)، ولكن شويي لم يمت، وبعد هذه السنين رقد في المستشفى مشرفاً على الموت كما رقد جد جياكي، اجتمع الطفلان وأصبحت الغرفة ملاذهما في غياب أهلهما، الأبوان السكيران والعنيفان أحياناً، وأماهما الغارقتان في حفظ إحساسهما بذاتيهما عن طريق علاقات الحبِّ مع رجال آخرين. يطرق جياكي وغونغ بقبضتيهما على صدر العجوز بلطف “....وقد وقعا على الجواب ولكنهما لا يملكان فكرة ماذا كان السؤال...”، أو مجموعة الأسئلة عن الماضي الذي لم يعيشاه ولكن الأجوبة ماثلة في الحاضر.
يكرر غونغ دائماً بأنه مثل أبيه: “يوجد شيء ما قذر في قلبه”. إنه يتذكر كيف كان أبوه يضرب أمه وكانت هي تتقبل الأمر ولكنها ترجوه أنْ يؤجِّل ضربه لها حتى ينام غونغ الذي أصبح هو أيضاً عندما كبر يفكر أنَّ الصحو حاجز يجب أنْ يهدّم. لقد كان أبوه مرة شاعراً محبوباً، وبعد مساندته لتظاهرات الطلبة في تينانمين سنة 1989 فقد عمله، وبعد ذلك حاول أنْ يكسب عيشه مقاولاً يسافر إلى موسكو لبيع البضائع الصينيَّة، ولكنه هجر عائلته أخيراً وقد ركبه الدَيْن ولاحقه ماضيه.
كان غونغ وجياكي يتمنيان حياة جيران لا يكون الجار فيها منطوياً على نفسه بعيداً عن جاره، وبدافع حاجتهما إلى أماكن اختباء أخرى يتسلقان جدار باحة مستودع الجثث، ولم يكونا منزعجين من رؤية الأموات، فهما يخافان فقط “الأشياء الحيَّة”. إنَّ شقهما لطريقهما في الحياة وبحثهما في خفايا الماضي يثير فيهما ضباباً من الأسرار لا يغادرهما، ولكن جياكي تتملكها الرغبة اليائسة في المغادرة وفي رؤية غونغ قبل ذلك ولكنه لم يأت إلى مكان الموعد.
بعد ثمانية عشر عاماً يتجدَّد اجتماعهما، إذ تطرق جياكي الباب على غونغ وهو مزمع على مغادرة. خلال ليلة طويلة وشرب العديد من الكؤوس يتناوب غونغ وجياكي سرد الفصول ويبني كلّ منهما فصوله البديلة مفككين “القصة الأكبر حولهما” التي دارت باستمرار فكفّنتهما كالشرنقة. أذاب صوتاهما حدس الطفولة مع تجربة البلوغ، فقد كانا يريدان فهم أين يكمن ولاؤهما وأين يكمن تمردهما؟. لقد ارتبط غونغ بحياة يسودها العنف وهي تجربة لا تخلو من التفلسف، حين يُمعن غونغ النظر إلى رجل يقول: “أريد صدعاً بسيطاً في كرامته لأستطيع مهاجمته”، أو يقول لجياكي: “سيأتي اليوم الذي نمسك بفريسة ويسلك بعدها كلّ منا طريقه”.
إنَّ (الشرنقة) بعد كلِّ شيء رواية مجددة جريئة مقامة على الحوار مع الماضي ولكنه ماض معاد تخيله وتشكيله، وعلى انبثاق الجرائم التي لا يفعل إخفاؤها سوى إظهارها من جديد، والكاتبة مهتمة بالحبِّ قدر اهتمامها بالعنف، الحبّ المخجل، والحبّ المدمر، والحبّ الساحر، وموضوعها العام هو الصين الموارة بالتحولات.