الرواية العراقيَّة والجهل الجنسي

ثقافة 2023/08/09
...

موج يوسف

الكاتب الفرنسي بلزاك الذي كان يحلم بالصعود إلى برج الشهرة وعالمها، فلم يجد أقصر طريق وأنجحه- ربما- إلا من خلال الكتابة عن المجون، والجسد، فألّف قصصاً ماجنة؛ لدواعٍ اشتهاريَّة، وهذا ما اعترف به لصديقته (ها نسكا) قائلاً: “إذا لم تكوني قد أحببتِ حكايات لافونتين أو قصص بوكاشيو خليق بكِ ألّا تقرئي القصص الماجنة. وإنْ كانت هي وسيلتي الكبرى إلى الشهرة المرجوّة في المستقبل” لكنها لم تكن سبباً في شهرته، والقارئ لهذه القصص بعنوان (ألف ليلة وليلة الفرنسيَّة ليالي بلزاك) بترجمة: زكي شنوده المحامي، لم يجد المجون والابتذال، أو تسليعاً للجسد.

لكنَّ المثير للتساؤلات لماذا المجون يعد سبيلاً للشهرة؟ وجسد المرأة كلّما تناثرت أعضاؤه بشهوانيَّة ازدادت نسبة القرّاء لكاتب ما، فهل المجتمعات تعيش بجوع جنسي؟ ولماذا يحلم الكاتب بالجلوس على كرسي الشهرة؟ وهل شهرة الطيب صالح في موسم الهجرة للشمال كانت نتيجة لتوظيف الجنس أم لأنّه قدم عملاً أدبياً إبداعياً، حتماً الثانية السبب، لأنَّ الأولى- الجسد والجنس- لم تكن سوى مشاهد وظُفت لحاجة فنيَّة، في المناخ نفسه نجد العديد من الكتّاب الذين حاولوا اتباع طريقة الطيب صالح، لكنهم لم ينجحوا من الجانبين الفني، والموضوعي، بالرغم من أنهم فازوا في الحصول على الشهرة بشكل نسبي، وتوافد القرّاء على كتابتهم، وهؤلاء كانوا من فئة الشباب الناشئة، لأنَّ الروايات كانت وفق وعي هذه الفئة، ولعلَّ أول ما يطالعنا الكاتب علي بدر في رواياته التي كُتب على غلافها بأنها الرواية الأكثر مبيعاً في معارض الكتب لاسيما (الكافرة) التي بطلتها فاطمة العراقيَّة الهاربة من جحيم الجماعات المسلحة، والتي اغتصبها المهربون أثناء رحلة تهريبها إلى أوروبا، فيروي على لسانها: “حيث وصلت إلى أوروبا قرَّرت أنْ أنام مع سبعين رجلاً أجرّهم جراً إلى فراشي كنت أريد أنْ أرى الرغبة المتولدة في حبّ عابر أو من إعجاب جسدي فكنت أبحث عن أي جسد”. لو فكرنا من زاوية منطقيَّة، هل يُعقل أنَّ امرأةً تعرّضت لعنف واغتصاب تفكر بممارسة جنسيَّة مع سبعين رجلاً؟ إنَّ المرأة بهكذا حالات تصاب بجروح ما بعد الصدمة فترفض الآخر، والاضطراب النفسي الذي يصيبها يخفض منسوب نشوتها، والكاتب صوَّر شخصيتها بأنها تعاني من تداعيات الصدمات، ووصل بها الحال إلى الانتحار، فكيف تقرّر مضاجعة هذا الكم من الرجال؟ كما نرى أنه استعمل لفظة (أنام) مع الجنس ولم يقل أضاجع أو ما يرادفها، لأنَّ دلالة أنام هي شعبيَّة يفهمها القارئ البسيط بأنها تضاجع أو تمارس جنساً، فنأى عن استعمال اللفظ الدقيق للدلالة الجنسيَّة، لتكون مفهومة عند قرّائه غير الواعين. ومن جانب اجتماعي إنه تشويه لشخصيَّة المرأة المشرقيَّة التي لا هدف لها في أوروبا سوى امتهان العهر. وفي رواياته لا (تركضي وراء الذئاب) التي اتكأت على بطل عراقي شيوعي أميركي ومتزوج من أميركيَّة، فتظهر الثيمة الأساس جسد النساء بجميع ألوانهنَّ وأعراقهنَّ، فيقول على لسان البطل مع عشيقته بمشهد حميمي: “قلت لها وأنا متمدّد عارياً على السرير بينما نهضت هي من الفراش لترتدي كالسونها المرمي على الأرض أشعلت سيجارتها وذهبت لتصبَّ كأسين من الويسكي وأخذت تنظر من النافذة وهي تدخن سيجارتها وتشرب من كأسها.. وأنا أحدّق بجسدها الفتي وهي واقفة شبه عارية قرب النافذة وفي يديها الكأس. أنا مسكون ومخدر برؤية جسدها البض، كنت أنظر بوله طاغ إلى صدرها إلى انحناءة ردفيها الجميلتين”. إنَّ المنزلق الفني الذي وقع به الكاتب هو أنَّ المشهد مقتبسٌ من أحد مشاهد الأفلام العالميَّة والذي تكرّر بأكثر من فيلم، والبدر لم يقم بجهد سوى كتابته، فيظهر فقره في الخيال. والجانب الثاني الإفراط في تناول الجسد بشهيَّة مفتوحة تستهدف القارئ (أحدق بجسدها، أنا مسكون ومخدر بجسدها البض، أنظر بوله طاغ إلى صدرها) فهذه الأفعال المرئيَّة تستهدف الخيال المسجون بالتفكير المستمر بالغريزة، ونلحظ غياب صوت البطل والراوي وحضور صوت الكاتب الذي تسلل بشخصيَّة البطل ولم ينفصل عنه، فظهرت رؤياه المستبدة في ذبح الجسد، من خلال توظيفه قرباناً للقارئ العربي، ذي الوعي المحدود- الأغلب- الذي وقع بهكذا شِباك كتابيَّة وأصبح أسيراً لهذا الكاتب، الذي فاز بالجمهور لا الإبداع، فذابت الإيديولوجيَّة التي يتبناها البدر وهي الثوريَّة اليساريَّة عندما سيطر عليه همّا الشهرة والفحولة التي ما زالت تشعل نارها من حطب جسد المرأة.
إنَّ الجهل بعوالم المرأة السكيولوجيَّة يشكل خطراً على القارئ، ويكشف عن ضعف وعي كتابه فرواية شظيَّة في منطقة حساسية للكاتب وارد بدر سالم، التي تتحدث عن امرأة متزوجة تعرضت لانفجار واستقرت إحدى الشظايا في عضوها التناسلي ممّا فجّر نشوتها بشكل مفرط، وجعلها تنزع ثوب الحياء- كما يروي البطل- فالسرد من بدايته إلى ختامه يقوم على المضاجعة وعرض الجسد فيروي: “سحبت يدها الثانية من بين فخذيها وطوقتني بذراعيها ورائحة أنوثة مختمرة تغير الهيل إلى عبق الطلع الناضج المشبك بجسدها الخاثر”، إلى نهاية النص- لم نكمله مراعاة للذوق العام- هذا المشهد ليس فيه اجتهاد للكاتب سوى الكتابة أيضاً، فهو منقول من أحد مشاهد الأفلام العالميَّة. ومن جانب موضوعي يحق لنا أنْ نسأل كيف لامرأة استقر جسم حديدي بجسدها أن تصبح بهذه النشوة العالية؟ فمن الناحية العلميَّة، عندما تتعرض أي امرأة لهكذا حوادث أو تصاب بخوف أو اكتئاب، تؤثر بشكل مباشر في النشاط الجنسي وتضعفه. فالبناء الموضوعي والفني في روايته يعانيان من ضعف شديد. فهذا يؤثر في وعي القارئ بشكل سلبي.
 فلماذا الإصرار على جعل موضوعة الجنس والجسد الثيمة الأساسيَّة؟ وهل يحاول الكتّاب مجاراة الكتابات الإيروتيكيَّة التي يزخر بها تراثنا القديم؟ أو أنها متطلبات عصر الانفتاح في سائر العالم. كتّاب كثيرون يلجؤون إلى دخول هذا الباب لاعتقادهم بأنهم سيعبرون عن إحباط معاصر، لكنه بالحقيقة تعبيرٌ عن خيبات نفسيَّة مفضوحة سرعان ما يتمّ كشفها، أي باحث أو ناقد يقول: إنَّ الملك بلا ثياب. وإنَّ هذه اللعبة هي الخواء بعينه وليست صدى لواقع اجتماعي يمرّ به إنساننا المعاصر، هي مجاراة لعالم انفضاحي.