رامية منصور
منذ البدايات الأولى لوعي الإنسان وتلمّسه طريق التساؤلات، وهو يخوض جدليات وصراعات معرفيَّة للوصول أو للحصول على حقيقة ما تمنحه أجوبة شافية عن الوجود والحياة والقوى الكامنة، وفي مواضع عدَّة يسفر سعيه إلى تعدّد أوجه الحقيقة بدلاً من تحديدها في وجه واحد، الأمر الذي عمَّق الصراع بين ثنائيات عدَّة مثل المادي والروحي، الذاتي والموضوعي، الحسي والحدسي، حتى تعددت الآراء والنظريات والفلسفات فأرست جدلاً يؤشر صيرورة المعرفة وتناميها بصيغ وبنى وعلاقات جديدة.
مرَّ التعبير الجمالي عبر مراحل الوعي البشري بصيغ وأنماط معرفيَّة منحت صورًا مكثّفة للتعبير عن معاني الوجود الكوني والإنساني وجدليات المصير، في الوقت نفسه أدّى مسعى الفنان لابتكار قناعات فكريَّة وانحيازات جماليَّة إلى ظهور مدارس واتجاهات وحركات فنيَّة تشكيليَّة عزّزت الفرديَّة والتشظّي الثقافي ووسَّعت من عدد المسارات التي اتخذتها الرؤى الجماليَّة والأساليب الفنيَّة، كما عمَّق من إشكاليات الوعي لروحيَّة وأهداف الفنِّ وزاد من حدَّة الصراعات في وقت كانت فيه المجتمعات تتنامى وتكبر مساحة متطلباتها وتباينات منظوماتها المعرفيَّة عبر المكان والزمان.
زينة مصطفى سليم من الفنانات المعدودات في العراق اللواتي يمتلكْنَ موهبة حقيقيَّة في الرسم اشتغلت عليها وطوّرتها خصوصًا في مرحلة الغربة، إذ وجدت مساحة أكبر للتجربة, وحريَّة في التعبير عن نفسها خارج ضغوط البلاد الطاردة, ولربما مساحة كبيرة من الوقت, والرغبة قبل كلِّ شيء.. ولعلَّ ما عاشه الإنسان العراقي والأنثى بالتحديد من واقع ضاغط في بلادها وأزمات لا تنتهي ثم تلك الأجواء الصادمة في الغربة التي تحاول تجريدها من كلِّ انتماءاتها وجذورها, يوازي ذلك شحن قوي من الحنين ليس للبلاد الطاردة بل لكلِّ الثيمات التي شكّلت شخصيتها مما يجعلها تزجّ بكلِّ تلك الثيمات في قالب من الرمزيَّة والتعبيريَّة معًا في أعمالها!
أعمالها تخرج من الذات الشغوفة باللون والمعنى وتتفرَّع عبر طرق وممرات التماس مع الماضي والحاضر الزماني والمكاني أكثر من التماس مع شخوص المحيط الذين يأخذون الحيّز الأقل في لوحاتها. ليس هناك من عمق منظوري في لوحاتها لأنَّ ما من خلفيات في أغلبها, إذ هي تتجرَّد من المكان وتبتعد عن تحديده وربط أعمالها به لربما لا تريد أنْ يجرَّها لخليط من أناس وأمكنة, أمكنة أثيرة لديها لكن لا تود العودة إليها, حتى ذكريات ماضيها دفنتها في مكان خفي في ذاكرة اللاوعي التي لا تخرج منها سوى مفردات هي تختارها ولا تُملى عليها.
“ لأنِّي غريب
لأنَّ العراقَ الحَبيب
بعيد، وأنِّي هُنا في اشتِياق
إليهِ إليهَا أُنادي: عِراق
فيرجعُ لي من نِدائي نَحيب
تفجّر عنهُ الصَّدى
أحسُّ بأنِّي عَبَرتُ المدى
إلى عَالم مِن رَدى
لا يُجيب
نِدائي..”
إنَّ المنطلقات الأساسيَّة التي قامت عليها الاتجاهات الفنيَّة لما بعد الحداثة تمحورت حول استثمار معطيات الإحساس البصري في الاتجاه التشكيلي عبر البحث في الأثر الأقوى الذي يتركه المشهد المرسوم, فوق سطح القماشة أو الحامل اللوني, على عين المتلقي ومنظومته الإدراكيَّة, وتقصّي الإيحاءات البصريَّة التي تأخذ بزمام العين تعميقًا للتشابك النفسي, وتوظيف الجانب العلمي في تطوير أدواته الفنيَّة الإبداعيَّة..
ثمّ نرجسيَّة تسيطر على مواضيع أعمالها, نرجسيَّة إيجابيَّة تجعل الفنانة تلعب دور البطولة المنفردة في اللوحة، حيث تصوّر نفسها كما تحيا أو كما تحبُّ أو كانت تحبُّ أنْ تحيا.. العيون الكبيرة التي تميِّز أعمالها من دون شكّ لا ترجع لأعمال الأميركيَّة مارغريت كين بل هي تتسلسل من إرث بلاد الرافدين القديم من عيون السومريين الكبيرة التي ميّزت منحوتاتهم في تلك العصور الموغلة في القدم وصارت جزءًا من تراث العراق الشعبي والفني والأدبي لليوم..
يقول لورانس كارول: إنَّ “الهديَّة التي مُنِحَت لي كرسام هي أنْ أعطي القليل من الراحة لنفسي حيث لدي هذا المكان أُعَبِّرُ فيه عن الأشياء التي قد يدفنها بعض الناس داخل أنفسهم ويحملونها معهم طوال حياتهم”. هناك تماهٍ قوي بين ذات الفنانة وأعمالها لدرجة الانغلاق أو ما يقارب الانغلاق على الذات بشكل يصبح فيه المحيط الخارجي وشخوصه وحيواناته وجماداته مجرّد مفردات منعكسة عن الهواجس والأحلام والتطلعات والمعاناة وشعور الوحدة في أعماق وعي ولاوعي الفنانة الإنسانة, تشكّلها بمعماريَّة هي تعرفها أو تألفها وتعني لها ما تعني.. إنها تبحث في ذاتها عن ذات الأنثى وحين تجد جزءًا منها تحتفي به وتقدمه بأبهى صوره الطفوليَّة ثم تعود فتحطمه وتستمر في رحلة الاكتشاف الذاتي هذه من دون كلل وبكلِّ بهجة لونيَّة وروح من الشغف لا تنتهي كما لا ينتهي الفقدان والإحساس الثقيل بالوحدة داخل ذات الأنثى قبل الفنانة!
“ وإمّا هززتُ الغصونْ
فما يتساقَط غَيرُ الرَّدى
حجارْ
حجارٌ وما مِن ثِمار
وحتّى العُيون
حجارٌ
وحتى الهَواء الرطيب
حجارٌ يندِّيه بَعضُ الدَّمِ
حجارٌ ندائي وصخر فمي
ورجلاي ريحٌ تَجوب القفار”
• هامش: المقطعان الشعريان للشاعر بدر شاكر السياب.