الثقة والاعتماد من منظور فلسفي

ثقافة 2023/08/09
...

 كاظم لفتة جبر

تعد الثقة قيمة إيجابيّة تجعل الفرد مؤمناً بقدراته وما يمكنه فعله، وهي صفة تزيد احترام الفرد لنفسه. وهذه السجيّة التي يتصف بها الإنسان تعد الأساس في تكوين البذرة الأولى للمجتمعات وتقدمها. إذ تمثل حجر الأساس لكل بناء اجتماعي، العلاقات والنظم الاجتماعية، فكل العلاقات بين الأنا والآخر، والفرد مع المجتمع تحتاج الثقة إلى إيجادها واستمرارها. كما أن الثقة مفهوم متباين تبعاً للروح التي يحملها النظام  الاجتماعي. واذا عدنا إلى بدء الإنسان على هذه الأرض كانت القيمة مفقودة، كون ان الإنسان أينما ذهب تجده متسلحاً بالأسلحة لغرض الحماية في المقام الأول ومن ثم توفير حاجاته والغذاء من خلال الصيد. ثمّ بعد ذلك كانت الحاجة هي الأساس في وجوب الثقة.
ويؤكد ذلك ابن خلدون في “كتابة المقدمة” أن الاجتماع الانساني ضروري، وهو ما سبق فأثبته فلاسفة اليونان والإسلام، وعبروا عنه بقولهم “الانسان مدنيّ بالطبع” كما أن هذه الضرورة ناتجة عن حاجتين، حاجة الإنسان الى الغذاء وحاجته الى الدفاع عن نفسه، وكلتاهما لا تتمان إلّا بالتعاون.
وأضاف ابن خلدون أن الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورةٍ لا يصحُّ حياتها وبقاؤها إلّا بالغذاء، وهداهُ إلى التِماسهِ بفطرتهِ وبما رُكّب فيه من القدرة على تحصيله.
إلّا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفيه له بمادة حياته منه، ولو فرضنا منه اقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلّا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة تحتاج إلى مواعين وآلاتٍ لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري،  ويستحيل أن تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلا بدَّ من اجتماع القدر لأكثر من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون.
فالتعاون هو الأساس الذي ترتكز عليه الثقة في النمو والاستمرار، وليس حياة العداوة والحرب والتوحّش كما يرى الفيلسوف الانجليزي هوبز.
وتشير الفيلسوفة النيوزلندية المعاصرة انيت باير في مقالة لها بعنوان (الثقة وما يضاد الثقة( ضمن كتاب “فلسفة الثقة” لمجموعة مفكرين معاصرين، ترجمة: د. مصطفى سمير عبد الرحيم.
إلى أن العقد بين الأشخاص الأحرار ذوي القدرات والسلطات المتساوية يكون نموذج فقير بالنسبة مجالات الحياة الأخلاقيّة التي نهتم بعضنا ببعض، حيث أن انعدام المساوة حقيقة أساسية، يتم من خلالها تمييز الكثير العلاقات بانعدام المساواة بالسلطة، كالعلاقة بين الطفل والابوين، الزوج والزوجة، الشخص المعاق ومقدم الرعاية، او بين المواطن والمسؤول الحكومي، حيث يكون الشخص فيها غير ملزم بعقد، لأنّها علاقات غير اختيارية حتى وإن كانت من جانب واحد، وهي لا تقوم على المعيارية، بل أساسها أكثر
جوهريّة.
وان ما يوافق عليه الناس في ظل ظروف محددة، يفشل بالمثل في معالجة اخلاقية العلاقات غير طوعية، في المقابل يمكن أن توجد الثقة في علاقات التعاون والرعاية التي لم يتم اختيارها.
وباير تسعى بدورها ان تجد معياراً لهذا التباين بين العلاقات، وفي كيفية منح الثقة واعتمادها.
إلّا أن باير لم تنتبه إلى أن العلاقات غير الاختيارية يعتمد تشكلها على طبيعة التكوين الاجتماعي والديني، وهذا الذي لم نجده في رؤيتها الليبرالية للثقة.
كما تمت مناقشة الثقة من خلال الشهادة في كتاب الشهادة... دراسات فلسفية للبرفسور الاسترالي (سي إي جاي كودي)، إذ يناقش كيف يمكن كسب الثقة والمعرفة من خلال اللغة، فهناك رأيان في هذه المسألة الأول:  الاختزالية التي ترى لاكتساب المعرفة من خلال الشهادة يجب أن يكون هناك أسباب موجبة للتصديق.
ويعد (ديفيد هيوم) أول المنادين بالدليل لغرض تبرير صدق الشهادة وهي أن تكون أقرب إلى الواقع من المعجزة.
أما الثاني: اللا اختزاليّة ترى بأن الدليل غير ضروري، وان تصديق الشهادة أمر طبيعي لا يحتاج تبرير، ويعد (توماس ريد) أبرز المدافعين عن تلك النظرية من خلال قوله: إن طبيعة الإنسان الفطريّة تميل إلى نقل ما سمع أو رأى مثل الطفل، لكن ممكن أن تتغير بمرور التجارب الحياتيّة.
وان الثقة بالشهادة تحتاج للتطمين قد يكون الشخص الذي أدله بها موضع ثقة، أو أن القسم والوعد الذي يتخذه على نفسه يكون موضعا لتطمين الآخر.
الا أن البروفسور كودي لم يتطرّق إلى مسألة ذات أهمية تجعل من الشهادة موضع ثقة وتعتمد للتصديق، هي إخضاعها لمبدأ الغاية من أداء الشهادة التي تكون ذات وازع ذاتي أو سياسي أو اجتماعي أو ديني.
أما الجانب الثالث للثقة هو العلاقات بين الأشخاص من الناحية الأخلاقية والسياسية، وترى الفيلسوفة الايرلندية (انورا أونيل) أن العلاقة الظرفية بين المريض والطبيب أنموذجاً للأخلاق البيولوجية.
وتتطرّق اونيل في محاضرة إذاعيَّة إلى فقدان الثقة في الحياة العامة والمهن، والمؤسسات الحكومية والمدنية، في المملكة المتحدة، وترى أن المؤسسات التي لها الجدارة في زيادة الثقة في المجتمع، هي التي تسهم بشكل عكسي في تقويض الثقة وفقدانها.
وهذه المؤسسات ترتبط بالدين، او السياسة، او الاقتصاد، وهذا يعد أحد أسباب فقدان الثقة في المجتمع العراقي، كما هناك العديد من المجالات التي يتكرر فيها مفهوم الثقة بما يخص الاخلاق التطبيقية، مثل الشرطة والقانون، والسياسية والسياسيين، والأعمال المصرفيّة، الانترنت وبرامج التواصل الاجتماعي، العلاقات الدولية، والتقنيات والروبوتات، والتعديل الجيني، والذكاء الاصطناعي، ومراقبة الحكومات والشركات والعمليات الأمنية غير المصرح بها.
كما تمت مناقشة الثقة من خلال الايمان، وعلاقة العبد بالرب، من خلال الاعتقاد بالرب والامتثال له، مثل امتثال النبي إبراهيم لله في قضية نحر ابنه اسحاق، فهي ثقة مطلقة غير متغيرة والوحي يؤكدها بشهادته، بعكس الثقة في العلاقات البشرية التي تكون متغيرة وخاضعة للحاجة والمصلحة، ويرى (كانط) ان الثقة المطلقة بالصديق او اي انسان آخر، هي عملية نفي لحياتنا، ويؤكد ذلك الفيلسوف واللاهوتي الدنماركي (لوغستروب) بان الثقة ترتبط بشكل رئيسي بفكرة تسليم حياة المرء إلى شخص آخر، لأنه يعتقد هذا أمرا أساسيا في طبيعة
الثقة.
ففي الاستعمال العادي، لا تنفصل كلمة الثقة عن الاعتماد، أما في الصياغ الفلسفي فهي تختلف عنها، لكون الاعتماد يكون موقفاً وفعلاً، وكذلك الثقة، لكن غالبا ما يتم استعمال الاعتماد من دون اظهار او استعمال الثقة، فأنا اعتمد بانتظام من دون ثقة على الجمادات والحيوانات غير البشرية، كما هو الحال عندما اتصرف مع احد الحيوانات المفترسة التي خضت للتربية والتدريب، وقد اعتمد على الناس بطريقة لا تنطوي على الثقة، فعندما أسير بمظاهرة سياسية فأنا اعتمد عليهم بالمشاركة لكني لا أثق بهم.  
فالاعتماد يخضع للمظهر أو الشكل او الصفات الاولية التي تظهر أمامنا من الشخص، بعكس الثقة فهي لا تظهر إلا من خلال الممارسة فتكون استحقاقا وتكريما من نصيب شخص معين.
فالثقة ذات جانب عقلي نفسي، أما الاعتماد فهو ذو جانب حدسي.
لذلك فالحكمة ترى أن الثقة معدية مثلها مثل عدم الثقة.