عبود الجابري
ويليام كارلوس ويليامز، شاعر أمريكي ارتبط اسمه في الدراسات النقدية بريادة واضحة، بالحداثة التصويريةImagism ، نشر في أحد صباحات عام 1934 ملاحظة سريعة لزوجته، “إيماءةً عابرةً” ألصقها على الثلاجة قبل التوجّه إلى عمله. فيما بعد تبين أن الملاحظة كانت قصيدة قصيرة جدا، وأصبحت واحدة من أكثر إبداعاتِه شهرةً، والغريب أن هذه الملاحظة (القصيدة) مذكورة في العديد من الانطولوجيات والمواقع التي تهتم بالشعر؛ كواحدة من أجمل قصائد القرن الماضي، لأسباب بعيدة عن المعايير المعتمدة في تقييم النصوص الشعرية، فهي ليست سوى رسالة اعتذار من رجل استيقظ وفتح ثلاجة البيت، فوجد صندوقاً يحتوي على بضع حبّات من الخوخ، فلم يتمالك نفسه أمام المشهد، وما لبث أن أكل الخوخ كله، ويبدو أنه انتبه بعد فعلته هذه إلى أن زوجته هي من وضع الصندوق وما يحتويه في الثلاجة.
ربَّما تكون بعض الهواجس قد استولت على تفكيره حينذاك، مما خلّف لديه شعوراً عنيفاً بالذنب، وأراد أن يعتذر لها غيابيّاً، أسوة بما يفعله الأزواج. فالثلاجات في جميع البيوت أصبحت لوحات إعلانات، تلصق على أبوابها الوصايا والطلبات والمواعيد، فهي دكاكين البيوت، ولا بدَّ لساكني تلك البيوت من زيارة هذه الدكاكين بين حين وآخر.
القصيدة
( أردتُ أن أقول فحسبْ)
أكلتُ حبّاتِ الخوخ
الموجودة في صندوقِ الثلج
والّتي ربّما ادَّخرتِها
لوقتِ الفطور
-اغفري لي
فقد كانت لذيذةً
حلوة المذاق، وباردةً جدًّا
عدتُ إثر قراءتي للقصيدة (اللغز) إلى عدّة دراسات تناولت القصيدة موضوعاً للبحث، فوجدت أن بعضَ كتابها يجنح بعيداً بمخيلته، من خلال الحديث عن موجة التحديث التي تبناها ويليامز آنذاك من خلال توظيف اليومي في الشعر، تستغرقُ القصيدة نحو 20 ثانية للتلاوة، وليس لها إيقاع منتظم، ما علامات ترقيم أو قافية بخلاف الفواصل بين السطور، صحيح أنّها تتطابق مع مع الفلسفة الشعريّة التي دافع عنها ويليامز - بعيدًا عن التقليد- بقوله:
“حرّر الكتابة، اكتب شعراً عن أي شيء، كن محلّياً، كن أمريكياً، فلن تجد الأفكار إلّا في الأشياء المحيطة بك”
وهناكَ من غالى، وسعى به التأويل، إلى الربط بين محتوى القصيدة، ومقاصد سياسيّة عميقة، والحقيقة أنّي لم أجد في تلك الدراسات ما هو مقنعٌ لي كقارئ، فقرّرتُ أن أتصفّح بعض آراء المهتمين بويليامز من القرّاء، فوجدتُ ضالّتي هناك، فالناس يرون في القصيدة، حالةً من النبل، حيث كان الشعور بالاهتمام محورَ فكرة القصيدة، فهي وإن بدا موضوعها بسيطاً، حيث صعوبة أن تكون قصيدة ما بمثل هذه الفكرة عظيمةً بالمعايير النقدية، إلّا أنَّ تخليدها كان نابعاً من اهتمام العامة بها، وأظن أنَّ الشاعر نفسه ربّما يكون فوجِئ بالاهتمام الذي حظيت به، القرّاء جميعهم متَّفقون على حالةِ الحب التي قادت الشاعر، ليفكّر بطريقةٍ، يعترفُ من خلالها بذنبٍ وإن بدا غير عظيم.
نقاد آخرون شطح بهم الخيال إلى ما هو أبعد من ذلك، فكتبوا عن الطريقة الفذّة التي اجترحها الشاعر في تعريف التسامح، بينما رأى البعض أن حبات الخوخ كانت كناية عن نساء في حياة الشاعر، وقد اغتنم تناوله لهذه الفاكهة ليعبّر عن ندمه على خيانته لها معهنَّ، و كانت تصورات هؤلاء أن الأمر لم يكن فيه خوخ ولا ثلاجة، وأنَّ الموضوع بجملته كان التفافاً مارسه الشاعر على التصريح بفكرة الخيانة مستخدماً هذه الموضوعة ليعلن عن ندمه.
فيما اعتقد بعض الكتاب أن الاعتذار فاتر لأنّ الشاعر يتحدث باسترخاء عما فعله، والدليل أنّه تلذّذ بما فعله، لكنه لم يعدْ زوجته بعدم القيام بذلك مرة أخرى، كما أنّه لم يشرح الأسباب التي جعلته يفعل ذلك، وأنّه بدلاً من ذلك كتب ببساطة ملاحظة اعتذار، ويكاد يكون متأكدًا من أن شريكته ستدرك الأمر وتلتمس له
العذر.
التأويلات اللاهوتيَّة
وقد تناولت تلك التأويلات فاكهة (الخوخ) كرمز مركزي في القصيدة، وأن من الصعب معرفة دوافع الشاعر في توظيفها في القصيدة، طالما كانت بهذه البساطة الجذريّة، كما لو أنّه عازم على تجنب الرمزيّة العلنية، لكن قراءة معمّقة -حسب زعمهم- ترى في توظيف الخوخ صدىً لقصةٍ أخرى من الفاكهة المحرّمة، ويعنون بذلك حكاية السقوط التوراتية في الكتاب المقدّس، ومخالفة آدم وحواء الأوامر الإلهية بعدم الاقتراب من شجرة المعرفة، وكيف أفضى بهما الفضول إلى أن يطردا من الجنّة. ويمكن للخوخ أن يرمز إلى الإغواء والخطيئة الأصلية.
فيما تناولت بعض التأويلات (الثلاجة) كرمز يشير إلى المتعة المؤجلة، في إشارة إلى العقيدة الكاثوليكية، وفكرة الاعتقاد بأن الوجود الأرضي يجب أن يُعاش ليس مع التركيز على المتعة المباشرة، ولكن مع التركيز على المكافأة السماوية بعد الموت.
وبعيداً عن أية معايير نقدية، تبقى قصيدة ويليامز حصاة صغيرة نتعثر بها في الانطولوجيات الشعرية، ولانملك سوى البحث في جملة أو مفردة منها عن ماهية الشعر الذي سلب ألباب الملايين وأين يقع مخبأه الذي يجعلنا ندير رؤوسنا يمنة ويسرة عسى أن نعثر على درة الجرجاني متمثلة في تعريفه لمفهوم الشعر في كتابه (اسرار البلاغة) حيث يقول “فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخييلات التي تهز الممدوحين وتحركهم، وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش، أو بالنحت والنقر. فكما أن تلك تعجب وتخلب، وتروق وتؤنق، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه، ولا يخفى
شأنه”.
صحيح أن القصيدة تجعل القارئ يعيش الحالة كما لو انّه يتجول في مطبخ ويليامز الحقيقي حيث تبدو دنيوية القصيدة درساً في اللياقة الأدبيّة والكتابة عمّا هو غائب أو لا يمكن العودة عنه أو العودة إليه، الزوجة، الخوخ، الثلج ذائباً، جناية الأكل، والشعور بالطعم الذي بات ذكرى تنام في رسالة اعتذار مكثفة، حيث لا مجاز ولا صورة ولا أي من أدوات الشعر المتعلقة بأعمال التفكير أو شحذ المخيلة، هكذا سيكون علينا أن نتعامل مع القصيدة كنظرتنا إلى تمثال في ساحة عامة، علينا أن ننظر إليه من دون أن نعرف ملامح الجمال فيه، ونفكر بمصير الطين وكيف تسنى للنحّات أن يجازف بتطويعه من دون أدنى فكرة عما يسكن عيون العابرين من جمال راسخ.