نحت النجوم واتحاد السماء بالأرض

ثقافة 2023/08/12
...

 عزالدين بوركة


تعمل منجزات فن الأرض land art على إخراج الحجارة والأغراض الطبيعية، وحتى المصطنعة أحيانا، من بيئتها المألوفة، وجعلها تندرج في سياق مغاير، يعمك إلى إلباسها لبوسا غير الذي كانت عليه. مما يغيّر من وظيفتها ومن معانيها ومن دورها. فعملية الإدماج هذه l’insertion تهب الغرض "المبتذل" والعادي الطبيعي قيمة استتقية، متأتية من إدغامه في السياق الروحاني عند البدائيين، أو التعبيري والرمزي عند المعاصرين. ولكن الغاية واحدة: شحن الغرض بشحنات غير التي كان يحملها، وتفريغه مما كان محمّلا 

به.

غير أن فعل الإدراج والإدماج لا يتأتى عن عفوية مطلقة، فالأغراض ليست أسندة supports أو ركائز وحوامل، بل إنها ذرائع prétextes مفكر فيها بعناية، موضوعة فيما يسميه جيلبر سيموندون Simondon بـ"نقطة-رئيسة" في 

عالمٍ .

 وهذا ما يفعله الإنسان البدائي في تشكيل تلك الأثار، التي لا يزال جزء يسير منها يكتسيه الغموض، بوضع الحجارة والأغراض الأخرى في موضع محدد، مدروس بعناية (اتجاه الغروب أو الشروق أو قبالة نجم ما، أو أمام بئر أو بحيرة أو مدفن... إلخ)، بغاية روحانية وطقوسية ذات بعد جمالي في الآن عينه.

وقد عمد فنانو البيئة المعاصرون على إدراج أعمالهم الأرضية، في صلب المشهد الذي يريدون لفت الانتباه إليه، لتندغم معه وتُوّلد دلالاتها من خلال عملية الالتحام مع الفضاء، دون أي حاجة للكثير من أدوات التجميل أو الاستعانة بالمفردات البصرية الكثيرة، التي قد تقوم بالتشويش على المراد قوله، أكثر من خدمة إيصال الرسالة. لهذا يمكن أن يصير أي غرض مهما كان عملا إستتيقيا، إن وُضع في نقطة معينة في العالم تخدم نقل وتبليغ transmission رسالة.. وأحيانا قد يكتفي بنفسه دون أي نية مباشرة لقول أي شيء واضح وبيّن، يترك للمتلقي كامل الحرية في تحميله بالمعاني، انطلاقا من نقط التقاء قصدية العمل بقصدية 

المتلقي.

في منطقة صحراوية مغربية هادئة، وعلى هضبة تطلّ على نجوم السماء اللامتناهية ليلا، يقع "السلم السماوي"، الذي يلزمك صعود 56 درجة، بينما تضيق الجدران بك وأنت متصاعد، لترصد الظواهر الفلكية من شق عمودي ضيق في منتهاه، بين خفقان القلب وسكون السماء تكاد تسمع "طرقات" النجوم اللمّاعة والمتلألئة -النادرة في سماء المدن المدججة بكابوس 

الاسمنت. 

إنه أحد أعمال فن الأرض التي قام بها الفنان الألماني المعاصر هانسجورج فوث Hannsjörg Voth (1940)، ما بين سنتي 1980 و1987، إلى جانب عمليْن آخرين أنشأهما على امتداد الـ20 سنة اللاحقة. منجزات المستوحاة من العالم السماوي والروحاني الذي يطبع الصحراء المخاتلة، التي توهمك أنها خاوية، غير أنها مليئة بالأسرار والخبايا القابعة تحت رماليها المتحركة. إذ ما بين عامي 1992 و1997، سيكمل الفنان اشتغاله، ليشيّد منجزه الأرضي (الصحراوي) المسمى "اللولب السماوي"، اهتداءً بـ"الرقم الذهبي"، عمل متصاعد في استدارات متعرجة وحلزونية إلى أفق السماء، ابتغاء معانقة النجوم، التي تتبدى للصاعد على أنها تتنزّل إليه. بين هذا التدلي والتدني تنكشف هذه الأعمال، في كونها مندمجة في بيئتها الصحراوية، في انعزال روحاني متشبع بغموص رجال التصوف الذي عبروا الصحراء نحو نقطة أعمق في قلب إفريقيا. 

بعد ذلك العمل الهندسي الذي شيّد على أسس صدفة نوتيلوس؛ أقام الفنان الألماني ثالث أعماله. اهتدى فوث إلى تعمير مدينة صوفية غير مسبوقة، قصر من الطين الأحمر في بؤرة مركزية من الصحراء، نقطة رئيسة، إنها مدينة أوريان التي صممت بين عامي 1998 و2003. تتكون من أبراج مستطيلة مصنوعة من الطوب واللبن، اتبع فيها الفنان خريطة أيادي الحرفيين، ليسلك معهم السبل الوعرة لبناء مدينته الإستتيقية المدغمة في أرض الرمال. سعى فوث إلى إسقاط جغرافية السماء على خرائط الأرض، واضعا أبراجه في تماثل مع مواضع النجوم السبعة الأكثر وضوحًا من كوكبة المشرق.   لم يتخل في كل هذه المباني الأرضية المتحدة مع السماء، على ترصيعها بأدراج تصل بسالكها إلى نقطة معينة (النظر إلى النجوم، الوقف عند فوهة بئر)، وهو ما يكسبها بعدها الصوفي، المتأتي من كونها تجسيد لمدارج السالكين إلى الارتواء من "عين الحق"، وتمعن السماء التي يتطلعون إليها في اتحاد متكامل مع الطبيعة والذات الإلهية. يعدّ البئر رمزا صوفيا متصل بالتجربة الينبوعية، ذلك المصدر الذي لا ينضب، وذلك الجبّ الذي يلقي فيه المتعبد بنفسه، دون أي خوف مسلما بإيمانه وروحه جسده كاملا لله. "ألقاه في اليّم مكتوفا وقال له.. إياك إياك أن تبتل بالماء"، يقول الحلاج. بينما ظل حلم فوث أن يوحد بين السماء والأرض، أن يلتقي الروحاني (الدائم) بالأرضي (الجسدي، الزائل)، وليتم ذلك ينبغي دائما سلك الدروب الوعرة، الصعود واللف، نوع من الرقص من أجل الاتحاد.