العمل في فضاءٍ مزدحم

ثقافة 2023/08/14
...

 ياسين طه حافظ

كان لا بُد أن يكون العنوان كذلك وأن يكون «فضاء» لا مكاناً ولا حجرة مزدحمة.. فما دام العمل عقلياً، الفضاء أولى، وما دام هو العقل، فلا عقل لم يزدحم بما ورث وبما يجيء جديداً وبما هو يطلع ويضيف. من بين «محتويات عقلنا الفردي، مهما كنا من التحضر والتمدن وفي أي حقبة تاريخيّة، ما هو غير مدرك أو مرئي، هو يحتفظ بأقوال أقوام غارقة في الجهل وما تحمله من مضامين تركتها الحياة الرعوية والزراعية. وهذه مثلما تجمع الحكم العملية والامثال الصائبة، تحمل أقوالا شنيعة الخطأ أو لم تعد صائبة، هذا إذ لم تكن فادحة الخسران او بلا معنى.

لكن الإنسان هكذا خلق، وريثاً لما يحب أو لا يحب. وليس هو من ينظم المحتويات أو يؤرشفها، هي هناك كل في جهة أو مكان من عقله وهي منزوية خاملة حتى يجيء ما يوقظ!

وحتى الآن لا نملك وسائل ولا قوانين تحول من دون كل المؤثرات الضارة في خزينك العقلي. فمفهوم الضارة أصلاً لم يحدد وعليه اعتراض. لكن بعض القوانين تمنع أفكاراً أو عادات او مواد. وبعض المدافعين عن حقوق الإنسان يرونها مصادرة لبعض من حرية الفرد وانها قوانين تعسفيّة. فما يرضى عنه، أو يُسكت عنه، هو ما تقرّره القوانين الشرعيّة، مما نصت عليه واشارت له وصايا الناس والكتب المقدّسة من مواقع ومحرّمات. وهذه ليست دائمة تُطاع حتى في المعابد والكنائس ومن ناسها أنفسهم. العصيان، الخطيئة، التمرّد.. كل منها وارد وفي أقدس الأمكنة وأكثرها حراسة. أيضاً قد تتداخل وجهات النظر، فبعض الناس أو الجماعات ذوو ميول أو أحوال نقيّة تميل للتصوّف او للزهد. وفي أحوال يصبحون غير أهل للحياة العملية. الحياة العملية أقل طهرانيَّة عادة. فثمة استرضاء ونفاق وتجسّس وكذب أرقام وأقوال، فضلاً عن التزاحم وربما الدسائس والايقاع. الجانب العملي يوجب منطقاً وعقلانيّة. وهذان غير التماهي الإيماني والحياة الزهديَّة والنأي للحفاظ على السلامة والسكينة بعيداً عن التلوث البيئي والاجتماعي. لكننا في كلّ حال نواجه اعتراض عيش واعتراض فهم حين نتخلى عما تقول عقولنا. عندما نهجر عقولنا ونعتمد على النصوص، فلا نهاية بعد لاضطرابنا. وحينذاك نخرج عن طاعتها. ثمة حاجة إذاً للحكمة، فلا هجر ولا ايقاف العقل والتبصّر في المقولة- موروثة كانت أو مقدّسة، كلها تُلزم الطاعة بقوة المجتمع أو بقوة القانون.

ولذلك يحصل كثيراً ان الناس يختارون من المبنى الجزء الصالح لهم. حتى المؤمنون واصحاب المذاهب يمرون ببعض الآيات مرور الكرام، ويعتمدون بعضها في الصغيرة والكبيرة، وبعض يتمنون أنّها لم توجد. لكن عدم وجودها يصيب المنظومة الشرعيّة بعدم التوازن. وهي للنفع الأبدي، لا للارضاء الشخصي وسد الحاجة الآنية. عموماً القوانين والنواهي لا تحمي من جميع الأخطاء، ولكن من بعض الاخطاء الحمقاء والتي تهدّد الديمومة الإنسانية والسلامة العامة. لا أرى كثيرين من ناس اليوم يؤمنون بإمكان تعادل أو توازن الفكر الأخلاقي وأفكار التقنية... لذلك الاختراقات ليست دائماً جرائم جاهلة هي أحياناً استجابات حتميّة لمتطلبات حياة. وبعض المذاهب المتأملة المتعقلة تقدر هذا وتجهد في ايجاد حلول وتفهّم من صلب إيمانها بالنفع العام لا بما وُرِثَ من

افهام.

المشكلة أن اختلاط الموروث متباين الأزمنة في عقل الفرد لا يجعل الرؤية الجديدة تشع. أو تلتمع بيسر. كوم من الاعتراضات تلتم عليها فتخرج، إذا خرجت، حادة عادة وغاضبة. هنا تتضح الحاجة إلى التربية العاطفيّة، الى الاخلاقيّة تفرض حضورها، فالآخرون مثلك في مواجهة فوضى الارث العقلي وارباكاته للرؤيا. الاخلاقية لها سلوك تربوي واحد هو أن توصيك، تلزمك بالاطلاع والتعرّف العقلاني الهادئ على آراء الآخرين، على الافكار المعترضة من تلك التي تكره وتلك التي تؤمن بها المجتمعات، لتعرف اين تلتقي بها وأين تختلف، كما أين خطرها عليك أو على خط تفكيرك أو على حريتك.

علينا الإقرار بأن لعصر التقنية متطلبات إيمان «متطورة» وليست التي كانت ايام الفراغ الكبير والزهد. في زمن التقنية لا صوفية ولا قدرية ولا اتكال. يجب أن تفكر وتعجّل وتلتزم. وامام الاشكال تضع في اللحظة حلاً! اخلاقية جديدة وروح عملية جديدة، وليس لنا غير أن نأسى لبعض الاحلام. علينا الاعتراف بتأكيد، أن الحياة تغيّرت وأن القواعد الاولى والوصايا وما كان يوجه الأخلاق والسلوك. بعضها فقد فاعليته وبعضها فقد احترامه وبعضها تمَّ التمرّد عليه حدِّ السخرية مما كان. ونحن يجب إلا يأخذنا الاعتزاز بالماضي حدَّ تجاوز سفاهاته وأخطائه. الأسماء الكبيرة التي تُنسب لها الاقوال لا تستطيع اسناد اخطائها اليوم لنرتضيها صواباً. ارسطو، على عظمته، له سخافات سخفاً معيباً هو يقول يجب أن تحمل النساء في الشتاء حين تكون الرياح باتجاه الشمال، وأن اولئك الذين يتزوّجون في سن صغيرة يكون اولادهم من الاناث! وأن دم الاناث أكثر سواداً من دم الذكور... المسألة ليست مسألة ارسطو أو المسيح أو هذا أو ذاك. المسألة مسألة مستوى حضاري وتقدم معرفي. وأن تبقى رؤوسنا ملأى بالمستويات المختلفة من ارث الماضي والمقولات والمعتقدات الشعبيّة وما يُقال في الطب والسماء وخفايا الكون والافكار الاخرى التي ابقتها الازمنة، ستجعل تلك من العقل الإنساني بيئةً ملوّثة وتقتل الافكار الجديدة وليدة ايامنا ونخسر التقدم ونخسر ثمار الجهد البشري وما تنتجه عبقرية الإنسان. ربما نجد في الخرافات والقصائد الطريفة بعض السلوى وان العالم بغيرها سيكون بارداً وفظاً. لكن هذه كماليات.. الاعتماد السليم والحق هو الاعتماد على العلم لا الاعتماد على الطبيعة القديمة ومنتجاتها. الجديد ترافقه أو تسنده «طبيعة جديد» أو «بيئة جديدة» لكي يحيا، لكي يعيش ويزدهر. وإلا فمن القديم، في عقولنا وفي الطبيعة او البيئة، ما هو سام مبيد وأن ظل فيه القليل النادر مما هو صالح وما يزال مفيداً. هذا القليل غير كاف للاعتماد عليه منهجاً. العمل العقلي اليوم، الافكار والرؤى، تعمل في حيّز مزدحم ومتشابكة مضامينه. مزيد من التامل، مزيد من فحص المفردات شرط اول لرؤية ما هو صواب او حقيقي ويمكن الاعتماد عليه.. الإنسان اليوم جديد بذائقته ومدى فهمه واحتياجاته وحتى مخاوفه. افسحوا له مجالاً للتفكير في هذه المستجدات وبيئتها واحتياجاته فيها! لا أبدية للفهم ولا أبدية للاحكام!