كريستوفر نولان : انحاز إلى أوبنهايمر وحاول تبرئته من الذنب العظيم

ثقافة 2023/08/14
...

  علي حمود الحسن

 يصنف فيلم "اوبنهايمر" ضمن أفلام السيرة الذاتية، التي غالباً ما تميل إلى السرد الخطي الواقعي، إلا أن نولان بأسلوبه السردي الفريد شظى التوتر الزمني من الحاضر إلى الماضي إلى المستقبل، والعودة من كل هذه المثابات الزمنية إلى بؤرتي السرد المولدتين (استجواب أوبنهايمر و لويس ستراوس رئيس هيئة الطاقة الذرية) اللتين تتعاقب من خلالهما الأحداث وترتد إليهما، على شكل ومضات لا يكاد المشاهد أن يلحق بها..

 غالباً ما يريد نولان من مشاهديه قدراً من الفطنة والمشاركة، موظفاً اللون الأبيض والأسود لإضفاء نوع من الوثائقية، خصوصاً في مشاهد استجواب شتراوس، بينما المشاهد التي تخص حياة أوبنهايمر بالألوان، وتكمن عبقرية كريستوفر نولان في التلاعب بهذين الزمنين، تعاقباً، وارتداداً، وأحياناً تقاطعاً، وهذا النوع من السرد لا يعطي حيزاً كبيراً لحركة الشخصيات، التي تتسق أحداثها مع الايقاع السريع، وهذه مشكلة تداركها صاحب "دونكيرك" باعتماده على  طيف كبير من نجوم هوليوود المحبوبين، ما جعل الجمهور لا ينفر من القطع السريع و "البرقي" للشخصيات، منهم كيليان مورفي بدور أوبنهايمر، وروبرت داوني جونيور مجسداً شخصية لويس شتراوس، وهذان الممثلان تحملا أعباء الفيلم، وكان أداؤهما مبهراً، وكذلك مات ديلون بدور المشرف على مشروع مانهاتن، فضلاً عن ممثلين آخرين ربما لم يظهروا سوى دقائق، لكنهم تركوا أثراً وحضوراً، ويبدو أن حماس كريستوفر نولان قد انتقل للجميع، فهم يعرفون أنهم سينجزون عملاً غير مسبوق، ينفرد مورفي بأداء ملحمي، إذ تقمص شخصية أوبنهايمر حد التماهي، بقوامه الناحل، وعينيه القلقتين، وملامحه الذابلة، وشخصيته المركبة، فهو عالم فيزياء فذ  وقريب من الحزب الشيوعي الأميركي، نرجسي ملتبس منطوٍ على نفسه، لكنه عبقري لا يطيق التجريب ما جعله أضحوكة لزملائه، وكاد أن يقتل أستاذه بالسم، لولا تفاديه ذلك في آخر لحظة، انتقل إلى ألمانيا لدراسة الفيزياء الكمية، فتجلت عبقريته، وبدت كوابيسه وخيالاته بالنجوم والجاذبية تتحقق، عاد إلى أميركا، فتم تجنيده واختياره لأن يرأس فريقاً لإنتاج القنبلة الذرية، عمل بحماس وكان ملهماً لرفاقه من العلماء في مختبرات "لوس آلاموس"، فنجح وفريق عمله بالتفجير التجريبي لأول قنبلة ستغير وجه التاريخ، وفرح الجميع وتعانقوا، غمرته نشوة النصر، لكن إلى حين، إذ ما أن سقطت القنبلة الذرية الأولى (الولد الصغير) على هيروشيما وبعدها الثانية (الرجل البدين)، حتى أحس بمدى الكارثة التي أقدم عليها، وعلى الرغم من محاولاته للحد من تأثير القنبلة وضبط استخدامها دولياً، إلا أن الإدارة الأميركية لم تسمع أصوات مناهضي السلاح الذري المبحوحة، يستجوب من قبل اللجنة المكارثية بعد أن سرب شتراوس الذي يضمر له الضغينة ملفاً يتهمه بالتجسس لروسيا. تقرر اللجنة بعد استجواب مرير سحب تصريحه الأمني، ليدخل في محنة أخرى، إلا أن صعود جون كندي رد له الاعتبار وتم منحه وساماً.

  الفيلم مقتبس من كتاب سيرة بعنوان "برومثيوس الأميركي" للمؤلفين "كاي بيرد" و "مارتن ج. شيروين، كيفه سينمائياً نولان (قصة وسيناريو) الذي انحاز لابنهايمر محاولاً تبرئته من الذنب العظيم، ويبدو أنه قد أوغل في ذلك، وعلى العكس من ترويج أن الفيلم غير سياسي، أنا أعتقد أنه كذلك، فأبو "القنبلة الذرية" لم يكن ساذجاً وكان واعياً لما يفعل، حينما اعترض بعض زملائه من العلماء بالقول: "إن هتلر مات وألمانيا انهارت"، أجابهم "لكن اليابان تحارب"، وحينما أهمل عشيقته جيني (قدمتها باقتدار فلورنس بيو) بعد أن كسر قلبها بزواجه من كيتي (أداء مبهر لايميلي بلنت) لتنتحر بطريقة مأساوية، انهار وراح يجلد ذاته، تهزه زوجته بقوة وتقول له: دائماً ما تفعل "الفعل" ثم تريدنا أن نصدق بأنك شهيد.

مشهدان لا يمران بشكل عابر في الفيلم؛ الأول حينما يلتقي أوبنهايمر بالرئيس الأميركي ترومان ويبوح بهواجسه المريرة من تدمير مدينتي هيروشيما وناجازاكي وقتل 140 ألفاً من سكانهما، ويقول له :"سيادة الرئيس إن يديّ ملطختان بالدماء"، فيرد الرئيس بصفاقة وهو يعطيه منديلاً "تستطيع تنظيف يديك"، فهذا الرئيس ومنظومته العسكرية، هما تمظهر لرأس المال المتوحش، قبل ذلك يرينا نولان جنرالاً يلغي اختيار أول مدينة يابانية لضربها، لأنها جميلة وقد أمضى فيها شهر عسل لا ينسى، في دلالة إشارية إلى استهتار هؤلاء بمصير العالم، وهذا يحيلنا إلى المشهد الأخير المرعب الذي يختتم به نولان ملحمته، إذ يعيدنا لنا نولان المشهد الافتتاحي حينما يلتقي أوبنهايمر بانشتاين على بركة ماء ويقول له إن ما قلته من خلال الاستنتاجات الرياضية بأن الانشطارات في الذرة ستقربنا من تدمير العالم، هذا ما حصل، الطريف أنه صور هذا المشهد بالألوان بينما صوره في المشهد الافتتاحي بالأبيض والأسود، والذي بنى عليه حبكة الفيلم الفرعية ففي هلوسة كابوسية يظهر لنا كريستوفر كوكبنا الأرضي وقد أحرقت أطرافه موجات من الانفجارات المتوالية لتعلن قيامة العالم.

 الخط الأكثر حيوية الذي بنى عليه نولان فيلمه الطويل، هو الصراع الناعم بين أوبنهايمر وشتراوس، الذي أنقذ الفيلم لا سيما جزءه الأخير من الرتابة، ثمة مشهد يظهر فيه أوبنهايمر عارياً أثناء الاستجواب، وهو يتحدث عن علاقته الحميمية بعشيقته جيني التي أحبها، بينما ارتكنت زوجته كيتي بإحدى الزوايا، وعلى الرغم من كون السياق السردي أقرب إلى الوثيقة، إلا أن ظهوره عارياً كسر الايقاع السردي، ما أربك المشاهد، لكن الأمر بدا طبيعياً، إذا ما عرفنا أنها وجهة نظر زوجته التي اجتاحها غضب وهي تستمع لزوجها  وهو يتحدث عن علاقته الحميمية بعشيقته.

مشهدان يظهر فيهما الرئيس الأميركي 

  اعتمد كريستوفر اللقطات القريبة للتعبير عن الصراع النفسي الحاد لأبطاله، ما حَمَل الممثلين عموماً أعباء تجسيد انفعالاتهم بتماهٍ تام، لا سيما أنه صور فيلمه بتقنية ( IMAX) وعلى شريط 70ملم بضمنها 5ملم لقنوات الصوت، ليس هؤلاء الممثلون فقط هم أبطال الفيلم، إنما فريق العمل الخاص بالتصوير، والمونتاج، والمؤثرات الصوتية، والموسيقى التصويرية، والتقنيين، الذين حققوا شطحات خيال نولان المبتكر، فضلا ًعن حملة تسويق غير مسبوقة، ربما أرادها منتجو الفيلم طوق النجاة لهوليوود، فالرأسمالية تجدد نفسها دائماً.