أوبنهايمر: {الآن أصبحتُ أنا الموت}

ثقافة 2023/08/14
...

 جورج بيريدج

 ترجمة: مي اسماعيل


يكشف فيلم أوبنهايمر للمخرج "كريستوفر نولان" بشأن السيرة الذاتية للعالم الأميركي "ج. روبرت أوبنهايمر"، ورغم كل نظرياته العلمية، عن شخصية رجل يفهم أن اختيار الإنسان الدقيق لكلماته يمكن أن يُشكل فرقاً كبيراً، عند البدء يبدو نولان معنياً باهتمامات أوبنهايمر الثقافية قدر اهتمامه بتصورات عالم الفيزياء النظرية الشاب. إذ يظهر البطل (الممثل "كيليان ميرفي") في أحد المشاهد وهو يقرأ أشعار "الأرض الخراب" ((للشاعر تي أس أليوت")) قرب الموقد، مستمعاً لموسيقى "سترافينسكي" ومتطلعاً إلى لوحة لبيكاسو معلقة قريباً، ويضرب بكرة إلى الجدار، رغم ذلك اضطر المخرج، حينما تبنى توظيف رواية السيرة الذاتية الضخمة للكاتبين "كاي بيرد" و"مارتن ج. شيروين": برومثيوس الأميركي- : انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر (2005) (American Prometheus: The Triumph and Tragedy of J. Robert Oppenheimer (2005) وتحويلها إلى سيناريو يمكن إخراجه، إلى اختصار العديد من تفاصيل حياة أوبنهايمر الشاب. ومما اختار نولان عرضه (وبحكمة) كان سرعة تعلم أوبنهايمر منذ طفولته للغات، وتفاخره بذلك على أقرانه. إذاً كان أوبنهايمر يدرك أن الاختيار الدقيق للكلمات يُشكل الفرق كله، ومن هنا اقتباسه الشهير من كتاب الهندوس المقدس "البهاغافاد غيتا"، عند سؤاله عن رد فعله على مشاهدة اختبار ترينيتي للقنبلة النووية: "الآن أصبحت أنا الموت.. مُدمِر العوالم". قدم بعض الأدباء ترجمة أخرى للعبارة ذاتها (من السنسكريتية) قائلين: "الزمن الذي يقتل، الزمن الذي يجلب كل الفناء، جاء من أيام سحيقة لكي يلتهم كل شيء". وهنا كانت العبارة مناسبة لوصف الفيلم؛ إذ كان الزمن بالنسبة لنولان (طيلة مسيرته المهنية) هاجساً كبيراً، وعلى يديه تمدد الزمن وانقسم وتشكّل وانضغط وأعيد تركيبه. ويمكن القول أن النتائج كانت متنوعة، فحين نجحت أفلام مثل "استهلال-(Inception"  2010)  و"بين النجوم- (Interstellar" 2014) على سبيل المثال، تعثرت أفلام مثل "تذكار-Memento" 2000 و"تينيت- Tenet" 2020. 


انشطار واندماج

رغم أنه كاتب موهوب دون شك، يستند نولان أحياناً بشدة على صيغة السباق ضد عقارب الساعة. ورغم وجود نقاط جذب متعددة لسرد قصة مشروع "مانهاتن" للقنبلة النووية، لا يمكن اغفال الشعور المزعج بأن نولان أراد ببساطة أن يصنع فيلماً عن العد التنازلي الأكثر خطورة في القرن العشرين. 

يقفز أوبنهايمر ذهاباً وإياباً بين "فصلين"، عنوانهما على الشاشة: "انشطار" و"اندماج"؛ الأول (المصور بالألوان) هو سرد ذاتي (كما يقول المخرج)، كُتِبَ السيناريو فيه بضمير المتكلم. أما التالي الذي جرى تصويره على فيلم "IMAX" أحادي اللون من "كوداك"  فهو موضوعي اعتمد بشكل كبير على المستندات المسجلة لكل من "اللجنة الرمادية" (وهي جلسات استماع خلف أبواب مغلقة نتج عنها إبطال التصريح الأمني لأوبنهايمر عام 1954)، وفشل ترشيح "لويس شتراوس" وزيراً للتجارة أمام مجلس الشيوخ عام 1959. كانت إيقاعات هذه الثنائية فعالة إلى حد كبير، رغم أنها بدت أحياناً أداة حادة للغاية لكسر مسارات الفيلم الطويلة.

سنُقابل أولاً الشاب الذي سيصير لاحقاً "والد القنبلة النووية" (كما أسمته مجلة تايم التي ظهر على غلافها) في جامعة كامبريدج أواسط عشرينيات القرن الماضي، وهو هزيل أشعث يعاني الأرق، "تعذبه رؤى لعوالم خفية"، وقد مزق مجال ميكانيكا الكم الناشئ الفيزياء الكلاسيكية لنيوتن واينشتاين إرباً، ينشغل أوبنهايمر  بالتموجات في البرك وومضات اصطدام الجسيمات، ونجوم تنفجر وتموت في الفضاء الأسود الشاسع اللامركزي. بعودته إلى أميركا يتحول الصبي المتشظي إلى معلم ذائع الصيت ذي شخصية، تلحق به مجموعته المتنامية من الطلاب في أرجاء الحرم الجامعي مثل المساعدين. ولكن رغم الاعجاب الواسع بعمله الأكاديمي، فإن ارتباطاته بالشيوعية وتعاطفه معها جوبهت بخشونة البعض. وقيل له بوضوح أن دعمه للنقابيين عقبة أمام انضمامه للمجهود الحربي. وفي تلك الأثناء أعلن الاتحاد السوفييتي أنه بصدد فلق الذرة؛ وهو أمر له (بالنسبة للعلماء) تفسير واضح واحد: صنع القنبلة.. لقد بدأ العد التنازلي.


"قتل المقتول"

سعى أوبنهايمر لاعتدال غرائزه السياسية، وجرى تعيينه لإدارة مشروع القنبلة، في موقع أقيم على عجل بصحراء نيو مكسيكو، ومجموعة من العلماء جُمعوا بسرعة. قال أوبنهايمر محاولاً اقناع بعضهم بالعمل معه: "لا أعرف إن كان بالإمكان الوثوق بنا لحيازة سلاحٍ كهذا، لكني أعلم أنه لا يمكن الوثوق بالنازيين". أخيراً صُنِعت القنبلة وجرى اختبارها في الساعات الأولى من يوم 16 تموز 1945. وقيل الكثير حول استخدام نولان للتأثيرات العملية لمحاكاة تفجير القنبلة، ورغم أن الانفجار ظهر مؤثراً على الشاشة (مصحوباً بصمت غريب يتخلل موسيقى المؤلف "لودفيج جورانسون" المؤثرة)، لكنه لم يصل تماما ًلإحداث "الوحي الرهيب بالقوة الإلهية" التي شعر بها صانع القنبلة. بعدها اقتنص أوبنهايمر "التناقض" ببراعة: فقد ابتسم وصافح الآخرين، لكن عينيه حملتا شيئاً ما بين الجزع والرهبة. وحينما خاطب جمهور البلدة المُحتفِل لاحقاً سمع هديراً مروعاً ورأى وميضاً يُعمي الأبصار، وشاهد الجلد يتساقط عن وجه امرأة شابة بين الحضور. وفي جلسة استماع أدار وجهه جانباً عن صورٍ لما حدث لهيروشيما وناكازاكي وسكانهما. 

يمكن القول أن شخصية أوبنهايمر مرآة لعالم الفيزياء الكمية المتناقض، فهو لا يشعر بالراحة تجاه القنبلة وإرثها، ورغم أنه لا يدفع باتجاه تطويرها كما فعل آخرون، ولكن من أجل الضوابط والتعاون الدولي، تذبل "هواجسه الأخلاقية" تحت ضوء الاستجواب الأبيض، وحينما اعترف للرئيس الأميركي "هاري تومان" أن "يديه ملطختان بالدم"، يعطيه الرئيس منديلاً للوجه. يتقبل أوبنهايمر بصمت السقوط من موقعه المتميز، مثيراً غضب زوجته التي تعترض قائلة: "هل تعتقد أن العالم سيسامحك إذا سمحت لهم بوصمك بالعار؟" فيرد قائلاً بهدوء: "سوف نرى". في مقطع آخر من الكتاب الهندوسي وردت عبارة: "ما عليك إلا قتل المقتول فعلاً". على المقاتل تأدية دوره، والزمن قد تكفل بالباقي فعلياً. وفي اللحظات الأخيرة يتخيل أوبنهايمر صواريخ تحلق في الجو وعالماً تحيطه النيران. لقد أدى ما طُلِب منه، وأغمض عينيه. 


- موقع "آرت ريفيو" للفنون