ضرغام عباس
ما كانوا يعرفون أن إنكار كل شيء عبودية، وأن الحرية الحقة خضوع داخلي. (ألبير كامو) .
كتب دستويفسكي رائعته “الجريمة والعقاب” عام 1866، متناولا فيها سيكولوجية الفرد، من حيث النزاع الداخلي، والفترات، التي تعقب فعل الجريمة من تناقضات كلاميَّة ومرضيَّة، الخ... إلا أن بطل الرواية “راسكولينكوف” لم يكن يعرف أن هذه الجريمة، هي جريمة العمر بالنسبة إليه. كان همه الوحيد هو المال فقط.
المال من حيث العيش لا من حيث اللذة. ربّما في رؤية أخرى من حيث أن ينال اسمًا بين الجرائد والصحف، وأن يكون حديث الأخيلة، بعد ما كان مجرد نكرة، وربما أيضًا كان مبرّر القتل هو الوسيلة الوحيدة في التحرّر من قيود العبوديَّة؛ عبوديَّة الأخلاق والنبل. هنالك افتراضات كثيرة حول سبب القيام بالجريمة وهذا ليس ما أنا بصدد تناوله في هذه المقالة .
عقب العمل الوحشي الذي قام بفعله راسكولينكوف، وعقب شخصية القاتل التي كانت تدعو للتحرّر من الجبن، وعبوديَّة الإنسانيَّة. حَلُمَ بما لا يخطر على البال، وهذا الحلم هو محور الحديث هنا. حيث حَلُمَ بأنَّ هناك حصانا هزيلا ضعيفا خاضعا لعبودية السوط، وأنّ السياط تمطر عليه من كل الجهات، تأمره بفعل فو واقعي حسب تعبير “أندريه بريتون”. الحصان الذي كان دائمًا ما يقول (نعم) فجأة، قال (كلا). هل هذه الـ (كلا) كانت نتيجة قول (نعم) باستمرار؟ أم كانت “مجرد (كلا) بديهيّة. هذا ما يُجيبنا عليه “ألبير كامو في كتاب “الإنسان المتمرّد” حيث قال :
« إنَّ العبد الذي ألِفَ تلقّي الأوامر طيلة حياته يرى فجأة أّن الأمر الجديد الصادر إليه غير مقبول، فما هو فحوى هذه الـ (لا)؟ إنّها تعني مثلاً :إنّ الأمور استمرّت أكثر مما يجب، وأنك غاليتَ في تصرّفك، وتعني أيضًا، هنالك حدٌّ يجب أن لا نتخطاه.
قد يقول القارئ هنا: لكنه مجرد حصان. نعم.. إنّه مجرّد حصان - حيوان يحسُّ بذاته إحساسًا عابرًا وغريزته الوحيدة هي البقاء. لكنّ الحصانَ الذي انكبَّ عليه “راسكولينكوف” في الحلم هو ذاته الحصان الذي انكبَّ عليه “فريدريك نيتشه” في الواقع عام 1889، وأيضًا ذات الجملة التي قالها “راسكو” قد قالها “نيتشه: أنا أشعر بك أو أنا أحسُّ بك”.
والفارق هنا بين الحالتين 23 عاماً. نيتشه الذي عُرفت فلسفته “بفلسفة المطرقة” وإنَّ لا وجود للإنسان الضعيف في مملكته، قد قال (لا) فما هو سبب قول الـ (لا) في مملكة قانونها الأول الحرية المطلقة - حرية ارتكاب الجريمة من دون عقبات .
إنَّ هذه المملكة التي تهدف لأحقيَّة القتل لم تكن أسوارها السبعة حديثة البناء بالنسبة إلى نيتشه، بل إنَّ “المركيز ساد” هو من قام بوضع الحجارة الأولى لهذه المملكة قائلاً: “ما قيمة جميع مخلوقات الأرض أزاء شهوة واحدة من شهواتنا؟!.
وأيضًا قال: “إذا كان الله يقتل الإنسان وينكره، فلا شيء يستطيع أن يمنعنا من إنكار أقراننا ومن قتلهم».
مجمل العبارتين يدلُّ على شيء واحد ألا وهو - لقد ولّى زمن الخضوع، لكن هل الخضوع هنا بمفهوم نيتشه هو النزول عن سلّم الأخلاق، وأنْ لا يكون المرء خاضعًا لملكوت الإنسانيّة؟ بالطبع نعم، والنعم هنا استنتاج لما ورد في مؤلفات نيتشه وبحثه الدائم عن الإنسان الخارق.
فما هو إذن هذا الإحساس المفاجئ اتجاه حيوان هزيل ضعيف قد سَئِمَ قول (نعم)؟، هل من الممكن أنْ تكون القراءة الناضجة هي السبب في التناقض الذي عاشه نيتشه في أواخر أعوامه، حسب رأي لا، لأنَّ صاحب المبدأ لا يتخلّى عن مبدئه. وهذا ما قد فعله “هتلر” بعد ما تبنّى فلسفة نيتشه في البحث عن الإمبراطورية الخالدة. فما هو إذن السبب الذي دفع نيتشه للنزول من مبدأ (لا رحمة) إلى (نعم للرحمة).. هل هو اللاوعي؟ هل هو الإحساس بالذات؟ أم الشعور بها؟، هذا ما يترك دائما للقارئ، فكل قارئ هو راسكوي في الحلم، ونيتشوي في
الواقع .