{رحلتي في الحياة}.. بطولات صامتة

ثقافة 2023/08/15
...

  سلام عبود

بعد جهد جهيد، وطول صبر وانتظار مصحوبين بسلسلة من العثرات، ظهر إلى النور كتاب {رحلتي في الحياة- حياة مناضل عراقي وطني ديمقراطي يساري تقدمي في الوطن وفي المهجر- للدكتور عزيز عمران الركابي. صدر الكتاب في أربيل، بطبعة محدودة، بمساعدة من محب في العائلة، من دون أن تتولى دار للنشر مهمة المساعدة على نشره.
والكتاب سفر طويل، بألف وثلاثمئة واثنتين وعشرين صفحة، آثر صاحبه أن يجعل منه مزيجاً من الأدب الروائي والذكريات أو المذكرات والسيرة تتحدث عن رحلة طويلة حقاً في الحياة وفي المعارك الوطنية الكبرى، التي عاشها العراق في حقب عدة، أبرزها الحقبة الملكية، التي قدم فيها المؤلف صورة مغايرة لتلك الصورة النرجسية المزيفة، التي تصرّ بعض الجماعات على جعلها "الزمن الجميل"! فعلى الرغم من حيادية وموضوعية الكاتب، إلا أن الحياة كانت أقسى بكثير من الدعاية الرومانسية، التي أخذت تنتشر في الآونة الأخيرة في كتابات بعض العراقيين، ممن لم يتسن لهم العيش في جو الصراع الوطني، أو الذين يمجدون تلك الحقبة تمجيداً منحازاً، خالياً من الموضوعية ومن الحرص الوطني. فالحكم الملكي هو من شرّع النفي، وجعل مدناً عراقية مناطق رسمية للنفي السياسي، وأشاع الاغتيال السياسي لكبار السياسيين، والشنق في الشوارع، والسجون الخاصة، وأصناف التعذيب القاسية، والإهانة الشخصية للمحكومين للحطّ من كرامتهم.
في عام ١٩٣٧ولد الدكتور عزيز الركابي بمدينة العزيزية، التابعة للواء الكوت – محافظة واسط لاحقاً- وعاش في قضاء بدرة حينما انتقل والده للعمل هناك، وقضى ردحاً من طفولته ويفاعته، ثم انتقل إلى الكوت حيث قضى فترة دراسته الثانوية. توجه في بعثة إلى موسكو للدراسة إبان حكومة عبد الكريم قاسم، وحصل على شهادة الدكتوراه في طب أمراض النساء والولادة. في موسكو انخرط الركابي في النشاط الطلابي، ناقلا خبراته التنظيمية في العمل بين الطلاب، فبادر إلى تأسيس أول لجنة للحزب الشيوعي العراقي لإدارة شؤون الطلاب في الاتحاد السوفيتي، وقام بمعية رفيقه وصديقه محمد علي الماشطة، والمهندس طاهر عبد الكريم وضياء العكيلي بتنظيم أول مؤتمر لرابطة الطلبة في الاتحاد السوفيتي، الذي كان عملاً تأسيسياً رائداً وطنياً وعربياً.  وأثناء إقامته في الاتحاد السوفيتي قام بترجمة عدد من المؤلفات الطبيّة إلى العربيّة. لكنه لم يتمكن هو وغيره من الوطنيين التقدميين من العودة والعمل في العراق، بسبب قيام انقلاب 1963 الدموي وما تلاه من حقب مضطربة. لذلك توجه إلى الجزائر وعمل في مستشفياتها. انتقل لاحقاً إلى السويد ثم إلى بريطانيا، التي أضحت محطة لجوئه.
رغم حداثة سنّه عاش الركابي في قلب الحركة الوطنية، وكان نصيبه السجن مرات عديدة في حقبة "الزمن الجميل"! كانت أول تظاهرة احتجاج شارك فيها الركابي، حينما كان طالباً في المدرسة الابتدائية.  وقد أرّخ الدكتور عزيز تفاصيل الحياة السريّة وظروف الاعتقال والتعذيب بشفافية أديب ودقة طبيب، مبرزاً الجوانب الإنسانية في تلك الأحداث.
أبرز ما يتسم به هذا الكتاب، الذي يضج بالأحداث الكبير والبطولات الوطنية، أنه كتاب يخلو من الأبطال. هناك بطولات جماعية كبيرة صنعها الشعب باتحاد إرادة أبنائه، ولم يكن الفرد فيها سوى لبنة في هيكل القوة الجماعية المناضلة. وقد يسجل للركابي أنه أظهر إخلاصاً شديداً ووفاء لهذا الفرد "اللا بطل" حينما حرص على تذكّر وذكر أناس مجهولين لعبوا دوراً مهما في صياغة تفصيلات المشهد الثوري البطولي آنذاك، وتحمّلوا نصيبهم الكبير من المعاناة والأذى.
وقد يتساءل القارئ عن سبب هذا الحرص! السبب الأول لمن يقرأ كلمات الركابي يجده في الإخلاص الشديد للحقيقة ولرفاق الدرب، مهما كانت مكانتهم السياسية والحزبية، وهو يراهم يندثرون بمرور الأيام. وربّما يكون الأمر دفاعاً لا واعياً عن النفس أيضاً، باعتباره أحد الذين سقطوا من قائمة الأبطال، وتالياً من لوحة الحياة والتاريخ بدافع النسيان، وربّما بسبب العقوق، الذي يمارس بحق الذين يخرجون من حقل الممارسة السياسية الخاصة والحزبية، التي هي المدخل الوحيد إلى حقل البطولة، في نظر قاصري النظر. يحاول الركابي التنقيب العميق في ذاكرته المتعبة، باحثاً في رماد السنوات عمن تبقى من هؤلاء الصناع الأنقياء للمشهد البطولي الوطني العام. إنه الإخلاص للحقيقة والتاريخ ورفقة الطريق في أيام المحن.
الإخلاص، سمة الكاتب، نجدها في مواضع شتى، حتى للأبطال، المسجلين رسميا في أعلى قائمة البطولة، وبالتالي يكون الإخلاص هوية لعلاقة الكاتب بالشعب وحركته الوطنية، انطلاقا من تربيته الحزبية وقيمها السياسية والأخلاقية الرفيعة. حينما نتحدث عن الإخلاص فإننا نعني الوفاء المجرد من الأهواء، أي الوفاء السامي، المنزّه، الذي كاد أن يكون البطل الوحيد في لوحة الحياة الطويلة التي رسمها الركابي لكل شيء، لرفاق السجن، ولزملاء التظاهرات، وحتى للصور التي خص بها علاقاته العائلية والشخصية.
وربّما تكون إحدى الصور المؤثرة التي تبرز علاقة الركابي بالوفاء حكاية الرفيق جبار. وهي حكاية مؤثّرة، تبين لنا أنّ صاحبها لم يكن يتعامل مع الوفاء بصيغته السطحية الفجّة، بل باعتباره مُركّباً تختلط وتتداخل فيه القيم. فهو يمنح وفاءه لمن يريد منهم ويرى فيهم الحامل الجماعي لقيم الوفاء، سواء كانوا حزباً أو حركة سياسية واجتماعية.
يقول الركابي إن أحد الذين أمّوا بيتهم وسكنوه الرفيق "جبار". وكان بيتهم وكراً سريّاً لبعض كوادر الحزب السريّة، تنقل من مكان إلى آخر بسبب ظروف العيش وبسبب خطورة الأوضاع السريّة التي كان الحزب يعيشها، فمن أبو سيفين إلى الدهانة وغيرهما من أحياء بغداد الشعبية.  بعد سنوات تشاء الصدف أن يرى الركابي، للمرة الثانية، من أواه، ولكن في ظروف جديدة، بعد قيام ثورة 14 تموز وتمتع الحركة الوطنية بالظهور العلني. رآه في احتفال جماهيري كبير، وحينما ذهب مليئاً بالشوق، لتحيّة رفيقه "جبار"، أصيب بصدمة لم يكن يتوقعها، أو لم يكن مستعداً لها. فجأة، يكتشف الركابي أن "جبار"، الذي يقف أمامه الآن علناً، لم يكن سوى "سلام عادل"، الوجه الأبرز في قيادة الحزب، والشهيد الخالد لاحقاً.
هذه الحكاية، التي تشبه الخرافة في مقاييس يومنا، هي التي تفسر معنى الوفاء النقيّ للقيم والثوابت الوطنية، وهي العنصر الجبار الذي كان خلف صناعة المكانة التاريخية الكبيرة للحزب الشيوعي آنذاك، حزب المناضلين الشجعان، الذين صنعوا البطولات من دون أن يبحثوا عن بطولة.
وعند دراسة التاريخ لا بد أن نتعلم أن الحقب التاريخية المتميزة إنّما يصنعها بناؤون مهرة، تربطهم ببعضهم قيم الوفاء والإخلاص، التي يحملها عنهم جماعياً كيانهم السياسي، الذي يتولى مسؤولية إيصال وفائهم الفردي إلى شعبهم، وإلى وطنهم بأكمله، وتالياً إلى التاريخ. لها السبب، نرى أن الأسماء اللامعة قد تتكرر على مدار التاريخ، لكن النهوض التاريخي الكبير عصيّ على التكرار. لأنه ولادة فريدة يصنعها أبطال صامتون، بلا ألقاب البطولة، بلا أوسمة، وربّما بلا أسماء.