المتنبِّي في صفحته الفيسبوكيَّة

ثقافة 2023/08/16
...

 عادل الصويري


مالئُ الدُنيا، وشاغلُ الناسِ، هل هو كذلك اليوم؟ قد يكونُ ملأَ وشغلَ؛ لأنَّ الشعرَ كانَ هاجساً مرتبطاً بالحياةِ وتحولاتِها، وسياقاتِها الاجتماعية؛ لذلك من الطبيعي أن يشغلَ شاعرٌ إشكاليٌّ تلكَ السياقات، بل ويسقي نباتاتِها من ماءِ تناقضاته ومشاكساتِهِ.

أمّا اليوم؛ لن يكونَ هذا المالئُ والشاغلُ سوى رقمٍ من أرقامِ حساباتِ التواصل الاجتماعي، وجزءٍ من أفيونِ الفراغِ المملوء بصراع أقطاب العالم المختصرين بمارك زوكربيرغ و إيلون ماسك. وقد يُصابُ بالاكتئابِ؛ لانعدامِ الطرقِ الوعرةِ التي أدمن عبورَها باتجاهِ اللغةِ والدهشةِ، فيبقى أسيرَ الملصقات الباردة، وغير المنسجمة مع مزاجِه الميّالِ لصيفِ الكوفة.

المتنبي في «الفيس بوك»، كائن غريب، أصدقاؤهُ قليلون، وأكثرهم من الشعراء، مع تمسكه بخاصية (البلوك) لكثيرين يقف أبو فراس الحمداني في مقدمتهم!

يبدأ صباحه من دون أي شهيَّة للاشتباك مع الذات، يتصفح مقاطع الإغراء 18+ عبر خاصية ريلز، فيكفر بالحكمة التي جعلها ترقص كفاتنةٍ في قصيدة، ثم يشير إلى المقطع الذي يشاهده ويقول: “هو العالمُ المحكيُّ والعالمُ الصدى”!

هو فعلاً كذلك، عالمٌ فرطَ خوائهِ يكون صوتاً وصدىً من دون لحظةِ تأثيرٍ يتركها على مدمنيه، باستثناءِ الترحم على رقمٍ غادر الحياة، أو مباركةِ رقمٍ حصل على الماجستير، أو آخر تم اختياره أفضل شاعرٍ في مؤسسة لا وجود لها، وكلّها تأثيرات عاطفية مؤقتة.

بعد قيلولةِ الظهيرةِ المضفورةِ بالتعرّقِ؛ بسبب استمرار انقطاع التيارِ الكهربائي (الوطني)؛ لأن أمريكا وضعت يدها على مال العراق المصروف للغاز الإيراني؛ يجد نفسه أمام عركة أدبية بينَ أديبٍ واتحاد الأدباء في بلده، ينشطرُ المتابعون أزاءَها بين مؤيدٍ ومعارضٍ لطرفي النزاع. ينزعج من كمية التملّق للمؤسسة على حساب الفرد الذي طرح رأيه، وأخفقَ في التعبير عنه؛ لنرجسية وشخصنة، ويستغرب من غياب أبيات الهجاء بين الطرفين وجمهورهما، فيقول في نفسه: ربما نثرَ الفيسُ الناس فصاروا غير موزونين.

يتصفح منشورات مجموعة أُضيفَ لها بغير إرادته، وطالما أزعجه هذا الأمر حتى اعتاد عليه، فينتبه إلى منشور يتعلق بالذكاء الاصطناعي، وإمكانية سيطرته على الحضارة في ظل هذا الهوس الرقمي الذي يعيشه المجتمع البشري. صدمه سؤال أحد المتابعين عن إمكانية حلول هذا الذكاء مكان الكتابة الابداعية، ليتساءل في نفسه: كيف سيكتب؟ ماذا عن المشاعر والانفعالات التي ترافق لحظة الكتابة؟

وإذا كان المحتفلون بهذا الذكاء قد استطاعوا إقناعه بالكتابة على مزاج شكسبير في سوناتته؛ ليمدح نفسه بوصفه منجزاً قادماً لابتلاع الحضارة والكتابة؛

 كيف له لو طُلِبَ منه الكتابة بمزاج المتنبي أن يقول: “نَثَرْتَهُمُ فوقَ الأُحَيْدِبِ نثرةً / كما نُثِرت فوقَ العروسِ الدراهمُ”، أو كيف سيقول قول الجواهري : “يا أُمَّ عَوْفٍ وما كُنّا صيارِفةً / فيما نُحِبُّ وما كُنّا مُرابينا”؟ بل كيف له أن يحاكي المشاعر الوجدانية في قول مظفر النواب: “آنه بيه امن الدعه لطولك ألف وركَة عنب/ أرجي كَربك بالتهجّي/ بالحلم ختّيله نلعب/ وانت بحساب الورد لنّك ورد من كَضبة تتعب/ العب العب يابعد شيبي عليك الحمزة أبو حزامين تلعب” ثم يضحك على هبل الذين يرسلون إلى (مستر ذكاء) طالبين منه الكتابة بأسلوب نزار قباني أو محمود درويش، فيأخذ الأمر منه وقتاً أطول من الوقت الذي استغرقه في الكتابة بطريقة شكسبير أو أدغار ألان بو، ليكتب مفردات لا تنتمي لقباني ولا علاقة لها بدرويش، ليصل المتنبي إلى قناعة أن هذا الذكاء حتى وإن أصبح واقعاً في عالمِ البيئة والتكنلوجيا والرقميات؛ فهو في الكتابة الابداعية، والشعرية على وجه الخصوص مجرد فقاعة لن تُعمِّرَ طويلاً، فيضغط على النقاط الثلاث الموجودة عمودياً يسار أعلى الصفحة الخاصة بهذا الجروب، ثم يضغط على خيار مغادرة الصفحة ويريح نفسه من هذا العبث، ويعود لمقهى صفحة الأخبار العامة لِيَراها ضجَّت بخبر الحمل الثالث لإحدى أشهر صانعات المحتوى، والتي ستتعشى وترقص هذه الليلة في أحد فنادق بغداد.