لوائح نيتشه الضاربة

ثقافة 2023/08/16
...

 ميثم الخزرجي

مواقف نيتشه واضحة أزاء القيم والمثل والأخلاق، وقد بان ذلك واضحاً في مدونته التي صدرها لنا، ومن هنا نقرُّ بأن جدليّة العدم  التي صيّرته إلى سؤال محتج بل حقيقة لا مناص من مواجهتها والتي بدورها جرّدته من المثول أمام أي استقراء سطحي غير منتم لمنظومته المعرفيّة لاعناً مآل الحتمي الذي قوض الإنسان ليجعله مسلماً بقدره، كذلك الحال بالرب الذي فند ماهيته وغرضه، والمطلق الذي كسر مداه متبوعاً بمحو سمة اللاهوت ومعناه الغيبي ساعياً إلى خلق دالة بديلة ترتكز على معيار ذاتي غير خاضع أو موجهة.

 الدالة التي استوت عند نيتشه لها فرادتها، فقد أراد أن ينير وجود الإنسان الجدلي والاشكالي وذلك بتكريس قيمته الحقيقية وإعطاء مهابة صاخبة على السائد الذي أحاطه وقوّم سلوكه، منوهاً أن باستطاعته اختيار مصيره بنفسه، غير أن رؤيته تبدو جلية حيال اتخاذ القوة بوصفها المقود الذي يُدير الشأن والمقرر الذي يضيء الكينونة، فتكون حاضرة بمعناها الرادع والمؤهل في مناكفة أي قيد يكبّله ليخرج من قضبان المنظومة الغيبية داخلاً في منظومة العقل التي لا تخشى المحاذير والمصدات المتوارثة، فلسفة نيتشه صِداميَّة محتجّة صاخبة تحاول تدوير الرؤى وفقاً لاجتراح عقل نقدي يُعرّي الأسئلة المتعالية ويزيح مضمونها للوصول إلى الزهو الذي يتعافى على أثره الإنسان طمعاً لإزالة الألم الذهني والسخام الغزير المعبأ به، لكن صدقاً هل كان نيتشه يسعى إلى رفعة الإنسان، وما هو مذهبه الذي يسعى من خلاله نحو التغيير.

تأثر نيتشه بفكر الفيلسوف التشاؤمي شوبنهار وصولاً إلى فاغنر ومقطوعته الموسيقية (ترسان وإزود) مشيراً إلى أن الفن بعموميته والموسيقى على وجه الخصوص تمثل تفصيلة مهمة من هذه الحياة، مطلعاً على تراث الإغريق وما لحقه من أساطير طرزت واقعهم واستقرأت الكثير من ملامح المجتمع وسلوكه وطريقة تصرّفه ليجد أن التحول الحضاري جاء نتيجة الفن بجميع مساراته الجماليّة وهذه المطالبة حرّض عليها نيتشه للخلاص من الترّهات التي طالت العالم، فالفن عنده المعبّر الحقيقي عن مدى ارتباط الشعوب بالواقع ونظرتهم للحياة، وجديتهم بالمشاركة مع الطبيعة والأزمات المعيشة ناهيك عما يسفر منها من وهج ورقي، غير أنّ الدعوة التي صرّح بها جاءته من خلال مبدأين الإرادة والقوة، فهما المحرّكان الفعليان على حث وتأليب قدرة الفرد نحو التغيير، ولو توقفنا عند هذين المبدأين لوجدنا أنهما سياقان متصلان -بحسب رؤيته- لا مفرَ من إزاحة أحدهما، فالإرادة هي النوع الأسمى للإثارة، والمحفز الأتم لاستمالة الراهن وتحريكه وفقاً لحمولة الفرد، لتبقى القوة بوصفها الوسيلة التي توصل هذه الحمولة وتبشّر بها للعالم لتمضي الى تحقيق الغاية المرجوة. 

القوة عند نيتشه الباعث الوجودي، بل هي لغته الصاعدة التي اجترح من خلالها مفهوم الإنسان الفوقي الذي يدير ويقترح ويصرّ على متبنياته، فلو توقفنا عندها كمفهوم جوهري نسقي نلاحظ ان تفعيل هذا المضمون جاء وفقاً لحالة من الإرهاق الذهني والنفسي بل حتى العصبي الذي تعرّض إليه، ليكون المتنفس الطبيعي له ذا مساحة ضيقة أزاء أيّ فعل إنساني وما يتمخض عنه من قضايا اجتماعية أو سياسية أصابته أو تعدّت شخصه، فالقوة تعبير ناجم عن حالة السخط والتذمر الذي عاشه نيتشه غير أنها أوكلت له طرح المفاهيم الضاربة كالخير والشر والحب والكراهية، الموت المادي والمعنوي، الصداقة وما يترتب عليها من التزامات أخلاقية وإنسانية، فقد دفعت به إلى طرح السؤال من دون خشية، مناوئاً للمطلق وغير مهادنٍ له، ليصل إلى مسائل عامة من ضمن حلقات الواقع الدائرة، كالفساد وأنماطه المتعددة، طبيعة الاقتران بالآخر والفائدة التي يجنيها من هذه المرافقة فيما لو ادّعينا بأن الآخر بشرٌ أم فكرٌ أم كان معتقداً، وهنا تكون الإتباعيّة التي دعا الى الغائها همّه الشاغل، كذلك هاجس الإنسان النبيل وما يسفر عنه من تداعيات حيال مجريات الواقع، فلو أشرنا إلى أن القوة ليست بالضرورة أن تكون العنجهيَّة أو الهدم المادي، لعلها التفوق على الابتذال والجرم الأخلاقي المستشري الذي اعلن عنه في أكثر من موضع ليدلي عن غايته من خلال كتابة (إرادة القوة) وهذا العنوان المتخذ كسياق وسلوك حياتي افتتنت به طروحات نيتشه، كتعبير واضح وجلي عن الإنكار والعدم الذي تنتهي به الحياة مبيناً من ضمن شروحاته بأنّها وسيلة للتيه والإغراء التي تحيط الإنسان لتجعله منفياً عن وجهته ومقاصده شارداً عن محتواه بل تكون محطة للوجع ومبتغاه.

يرى نيتشه أن القوة هي المعيار التي يتكئ عليها الفرد لتأسيس مكانته بين المجتمع، والتي يتفرد من خلالها أيضا في كيفية التعبير عن وجوده، ماحياً من ذهنه جميع الأحكام اللاهوتية والقرارات السياسية التي تسيّره وتجعله مقيداً ومنضوية في خانة القطيع، لذا بادر بإطلاق مصطلح “إعادة تقييم القيم” هاماً بالنزوع نحو تدوير كثير من المفاهيم وصياغتها وفقا لانساقه المعرفية، وهنا ينظر في ماهية الأثر وما وصل منه من سنن وقوانين مانحاً بدائل للفرد على أنّ له القدح المعلى في صناعة قراره من دون أن يستفهم عن مصيره من أحد، لذا أفرد جزءاً كبيراً من حياته في إيصال فكرته حول تمرد الإنسان على النظام التعليمي والديني أو الذي تلقاه من محيطه، وهنا يكون الفرد متفوقا بل صاحب رأي متعالٍ على كل القواعد التي وهبت له أو التي استقبلها من شريعة أو مذهب معين.