أحمد عبد الحسين
كتب الفنان التشكيلي باقر ماجد على صفحته في فيسبوك مقالاً يمكن عدّه صرخة تتلجلج في أفواه مبدعي العراق الشبّان من دون أنْ يجرؤ أحد على إطلاقها، ليس بسبب انعدام الجرأة لديهم لكنْ لشيوع اليأس، يأس من أنْ تغيّر صرختهم شيئاً إذا سُمعتْ. ولا أظنها ستُسمَع.
الطريقة التي يتمّ التعاطي بها مع الشباب ونتاجاتهم، الفنية والأدبية، من قبل شيوخ الثقافة، طريقة مخزية. لا أجد وصفاً أخفّ وطأة من ذلك. كان هذا الأمر يجري في كلّ جيل لكنه الآن أفدح.
عندي يقين قديم من حقيقة أنَّ وسطنا الثقافيّ مؤسس على الشائعات وحدها، شائعات مسمومة لكنها كُرِّرت حدّ التلقين إلى أنْ صارت حقائق يصبح الخارجُ عنها خارجاً عن الملّة. أقوى هذه الشائعات العُرف الذي يباشر به الجيل القديم رؤيته للأجيال التي تليه، فغالباً ما نُظر إلى مشروع الشابّ الشعري أو السرديّ أو الفني بوصفه “مشروعاً طور التكوين” لا يضاهي ما أُسّس على يد الروّاد أو الذين أعقبوهم. وأنَّ ما لقيه هؤلاء الشيوخ الذهبيون من مصاعب ومحن لم يختبره الشبّان للآن. ثمّ إنَّ الأسبقية في الظهور الزمانيّ وحدها موحية بتقدّم أصحابها إبداعاً على من يليهم.
وكلّ هذه الموارد محض شائعات ليس إلا. فالمصاعب التي جابهها الرواد والستينيون والسبعينيون وحتى الثمانينيون تغدو مجرد حفلات كوكتيل إذا قورنتْ بسنوات الحصار ثم سنوات الحرب ثم سنوات الاقتتال الطائفي وانطفاء المدينة والحياة بفعل عشرات الانفجارات التي كانت تحدث يومياً. ومن يعرف ما يجري في المختبر الإبداعيّ يعرف بشكل أكيد أنَّ المشروع الفنيّ هو دائماً وأبداً في طور التكوين، وأنَّ ما كُرّس من نتاج وخُتم عليه بشمع الناجزية الأحمر من دون أن يكون في حوار مع نتاجات اللاحقين لهو مشروع ميّت ينتظر يوم الحساب. وأنَّ الشيخوخة وحدها، حتى لو صرف صاحبها عمره كله في الفنّ، لا يمكن لها أنْ تكون المسكوكة الأثمن التي تجعله غنياً إلى دهر الدهور.
نحن بارعون في التصنيم. بارعون في تقديس ما مضى ونكران ما بأيدينا، لأننا في الأساس نجد لذة عظمى في الندب واللطم، ويطربنا أنْ نعرف أننا ضيّعنا الفترة الذهبية ودّعناها مع الطيبين الذين ماتوا أو همْ في حوار وشيك مع ملك الموت.
اشتغل الروّاد في حقبة زمنية هادئة مؤاتية للإبداع وقدّموا ما عليهم في وقت كان المبدعون في كل مجالٍ يُعدّون على أصابع اليدين فلم يكنْ لهم من منافسين ووجدوا في انتماءاتهم الإيديولوجية رافعة لهم ولأسمائهم التي أصبحت الآن أصناماً تُعبد.
بينما يجهد الشبّان اليوم في بيئة أقلّ ما يقال عنها إنها معادية للفنّ، ويقدمون نتاجاً هوـ بالتأكيدـ أعمق وأجمل وأكثر غنى ووفرة مما قدمه آباؤهم في الشعر والتشكيل والسرد. ومع ذلك يريد الجميع أنْ تظلّ أشباح هؤلاء الآباء طائفة على رؤوس الشباب الملأى بمشاريع متوجهة إلى المستقبل لا إلى الماضي.
للمثال، يضحكني دائماً اسم مهرجان للشعراء الشباب يقيمه اتحاد الأدباء. المهرجان اسمه “جواهريون”.
المشاريع الشعرية الشابّة تكمن عافيتها في انفلاتها من كل عقال وسدارة وعمامة وعرقجينة، ومحاولة ربطها باسم يثير الرهبة لفرط تكريسه وتمجيده والتنويع على أيقونيته، هو أمر مضحك يخبرنا أنَّ شيئاً كبيراً لن يحدث في ثقافتنا لأننا نكره أنْ تتحطم تماثيلنا الخزفية.
صرخة باقر ماجد يتناقلها الورثة من جيل إلى جيل، لكن ما أنْ يخطّ الشيبُ مفرق أحدنا حتى يسارع إلى تمثاله ويدخل فيه وينتظر السدنة والعابدين.