انتهاء القصيدة

ثقافة 2023/08/16
...

ليوبول بيتيغ   

ترجمة: ياسر حبش




نستمر في ترديدها، والشعر لا يشغل أو يحتل صدارة المشهد الثقافي العالمي. يسود تحيّزان في هذا الصدد: الشعر لن يكون قابلاً للترجمة وبالتالي لا يمكن أنْ يقرأه عامَّة الناس، وبالتالي سيكون مقيدًا في نطاقه ولا يمكن حقًا أنْ ينتشر في العالم لتنوير الإنسانيَّة وبالتالي ممارسة التأثير. لذلك ستكون الرواية بشكلٍ خاصٍ والنثر بشكلٍ عام، أسهل في الفهم والترجمة، والتي يمكن أنْ تفرض وجودها والتعامل بفعاليَّة وكفاءة مع المشكلات المعاصرة على نطاق عالمي. لذلك قد يبدو أننا وصلنا إلى نهاية الشعر.
ومع ذلك، في سياق ما اعتدنا على تسميته ما بعد الحداثة، فمن المعتاد استخدام تعدد المعاني للمصطلحات لتمييز نهاية أخرى، وهي المعنى الذي يمكن أنْ نضعَ أنفسنا عليه. قيمة المجتمع. يخفي إحدى الحواس دائمًا واحدًا أو أكثر حتى نتمكن من الدخول في لعبة الحواس التي يمكن أنْ تعطي انطباعًا بأننا قادرون على الاستمرار إلى ما لا نهاية. يمكن أنْ يؤدي مصطلح “النهاية” أيضًا إلى ظهور لعبة تعدد المعاني هذه المفيدة للشك في إمكانيَّة المعنى لأنه يعني “اللحظة التي تتوقف عندها “ظاهرة” و”اختفاء كائن”، أي في هذه الحالة (الشعر)، ولكن أيضًا “النيَّة” ليست سريَّة بالتأكيد ولكنها ليست واضحة جدًا ولا مؤكدة تمامًا من نفسها. على الشعر، في الواقع، انتشر ظل شك كارثي، وهو ما عبّر عنه هيجل عندما أعلن نهاية الفن، والذي يعد الشعر بالطبع جزءًا منه. ومع ذلك ، وكما سنرى بسهولة، فإنَّ حكم الإعدام هذا لم يمنع الأفراد، وليس أقلها، من الاستمرار في كتابة القصائد. إذن ماذا عن النبوءة الهيجليَّة؟

سأتبع هنا الطريقة التي وصف بها مالديني (جماليات الإيقاعات، 1967) فلسفة هيجل بأنها في الأساس فلسفة المفهوم. هذه ليست فكرة ثابتة ولكنْ يمكن تصورها على أنها المعنى الموجود في الوجود في مجمله. هذا المعنى هو دلالة واتجاه، سواء في الزمان أو في المكان. إنها ليست موجودة بالفعل، جاهزة، تنتظر من يكتشفها أو تكتشفها، لكنها تتحقق أو تتحقق من خلال تاريخ العالم. ومن خلال إدراك نفسها في العالم، فإنَّ هذه الروح، كعقلٍ، تنتج الضوء الضروري الذي يمكنها من خلاله الكشف عن نفسها. قبل إنشاء هيجل لهذا الشكل شبه المطلق للمثاليَّة الألمانيَّة، كان ضوء هذا المعنى ينتشر من خلال الفن: لأنَّ فن هيجل كان عالمًا حقيقيًا حيث يمكن للروح أنْ تتعرفَ على نفسها على أنها روح، كان من الممكن أنْ يكون الفن بطريقة ما. حياة الروح، لكن هذا الفن يعيش فقط على الروح تمامًا كما يعيش في الفن. كلاهما سوف يتطوّر في حالة الاعتماد المتبادل. الآن اعتبر هيجل أنَّ هذه الروح، المطلقة لغزو كل ما هو موجود، قد وصلت إلى وعيها الكامل في فلسفته الخاصة، بينما اعتبره قمة أو “نهاية” المثاليَّة المطلقة. لقد انضمت الروح أخيرًا إلى هناك، وبالتالي اجتازت مرحلة الفن التي أصبحت الآن عديمة الفائدة، لأنَّ الروح لم تعد بحاجة إلى شكلٍ معقولٍ لتعكس نفسها وتتعرف عليها. يمكن للروح الآن أنْ تدرك نفسها على الفور في جميع مجالات النشاط البشري، الفرديَّة منها والاجتماعيَّة والسياسيَّة. من ذلك الحين فصاعدًا، يصبح الفن زخرفيًا، ولم يعد يكشف عن معنى الوجود ويجب على الجماليات أنْ تفسح المجال للأخلاق. لذلك فإنَّ الشعر يقترب من نهايته وعليه أنْ يعترفَ بعدم جدواه. ليس لديها المزيد لتفعله في هذا العالم (القصيدة).

تمَّ تفسير النظرة الهيجليَّة للعالم خلال القرن التاسع عشر على أنها “تقدم” ويمكن للمرء أنْ يقول بشكلٍ عامٍ إنَّ الشاعر الحديث هو الذي يعيش في مناخ حيث يهيمن دين التقدم. ومع ذلك، يلاحظ بودلير، على سبيل المثال، أنَّ الرجل غير قادر على التقدم الأخلاقي، وبالتالي من الضروري الاعتراف بأنَّ الغناء أو توضيح هذا الشخص سيكون بمثابة الكذب مثل “مجتذب الأسنان المبتذل”، إنه المصطلح الذي استخدمه في رسالته الشهيرة إلى أنسيل في أيلول/ سبتمبر 1866. إنَّ القيام بالفن من أجل الفن سيكون أيضًا كارثيًا ويدين الشاعر بالبقاء على الهامش إلى الأبد. ليس لدى الشاعر أي شيء آخر ليُظهره أو يحتفل به، ولا شيء يغني أكثر من ذلك. لا جدوى من أداة الشعر. في نص حديث، يناقش أغامبين هذه الغاية التي، حسب قوله، موضّحة بشكل مثالي في النهاية المستحيلة للقصيدة. ومع ذلك، فإنَّ ما يبقى إشكاليًا للغاية هو أنه يسعى لإيجاد ما يسمى البراهين لمكانته في شعر ما قبل هيجل، حتى في دانتي، كما لو أنَّ الأخير قد قرأ التفكيكيين. مع ذلك، أحد أصدقاء هيجل، هولدرلين - هل نحتاج إلى تذكيرك؟ - لم يتوقف إلا واستمر في الغناء في أوقات الندرة. ما يجب أنْ نفهمه ليس النهاية كاختفاء، بل نهاية الشعر كرد فعل على الحالة التي خلقها العالم الحديث له، وقت “الندرة” هذا، والذي كان نهايته معالجة الجوع، والقلق وعلاجه. هي مسألة فهم هذا القلق وعدم الابتهاج قبل الأوان بنهاية مميتة وتنظيم جنازات التفكيك.

الشاعر الذي يشعر بهذا القلق يستمر بشجاعة اليأس، كما أكد ميشيل ديغي. عرف هولدرلين أنَّ الشعر هو أكثر الأعمال براءة (في رسالة إلى والدته للدفاع عن نفسه) ولكنه يتعامل مع أخطر سلعة، وهي اللغة. والسؤال إذن هو معرفة ما يمكن أنْ يفعله الشاعر لهذه اللغة ولماذا يجب أنْ يعرض نفسه لهذا الخطر، ولماذا يستمر بأمل يائس، وبعده الكثير من الآخرين. دعونا لا ننسى أنه من أعماق اليأس، والمرض من الموت، فتح كيركيغارد البعد الأنطولوجي للأمل وأنَّ بونفوا حدد الشعر بالأمل. لا يزال هذا الاهتمام يتعلق بالمعنى الذي لا يمكن أبدًا إثباته مرة واحدة وإلى الأبد ولكنه يعتمد على اللغة للسماح للإنسان أنْ يسكن الأرض بشكل شعري.

لم يتغيّر الوضع البشري منذ أنْ بدأ الإنسان البشري في الرغبة في تعويض اختفاء أحدهم بأغانٍ طقسيَّة. هذا هو الشاغل الأكبر ومعنى اللغة ومعنى الأغنيَّة والشعر. إنها غاية ونيَّة الشعر، حتى الآن، أنْ يؤسّس الإنسانيَّة في الأغنيَة، أنْ يجد الإنسانيَّة في الكلام الذي يشهد على اختلافها، على حياتها. يعيد الشعر صنع الكلمة الأصليَّة أو يكررها، ويعيد اكتشافها، كما يقول التروبادور. الشعر ليس له نهاية، فهو ينشأ باستمرار. لغته ليست تلقائيَّة بالمعنى السيبراني للكلمة، إنها التجلي وخلق المعنى. وبقدر ما نفهمه، كل إنسان هو شاعر. نحن نفهم مع الكلمات. كل كلمة مخاطرة، كل قصيدة مغامرة لا تقودنا للوقوع في هاوية المعنى، كما يقول أغامبين بحكمة. دعونا نلقي نظرة فاحصة على “انتهاء القصيدة”.

يبدأ أغامبين بأطروحة يعتقد أنها غير تافهة ولكنها بديهيَّة، وهي أنَّ القصيدة “تعيش فقط في التوتر والفجوة بين الصوت والمعنى، بين السلسلة السيميائيَّة والمتسلسلة الدلاليَّة”. منذ البداية، يمكن للمرء أنْ يتفاجأ من أنَّ الجملة أو البيت ليست سوى سلسلة وليست كلًا متناغمًا. فكرة التناقض بين السيميائيَّة والدلالات لها أصولٌ سوسوريَّة بالطبع، ويأخذها أغامبين من مقال جاكوبسون الشهير عن الشعر. كما نعلم، بنى جاكوبسون نظريته اللغويَّة بأكملها على نموذج الاتصال السيبراني الذي، بالمناسبة، فقد المصداقيَّة تمامًا الآن. بالفعل في العام 1981، أظهر فرانسيس جاك أنَّ هذا النموذج كان عقبة معرفيَّة في مجال العلوم الإنسانيَّة. يقع الكلام في الفضاء الحواري أو التمهيدي حيث يلعب الشخص الذي يُطلق عليه اسم المرسل أو المتلقي في علم التحكم الآلي دورًا لا غنى عنه في إنشاء المعنى. دعنا نضيف أيضًا أنَّ الكلام البشري يتم بمساعدة الصوت، وهي حقيقة لا يستطيع علم اللغة البنيوي، النظامي التفاضلي، كما نعلم، تفسيره، لأنه ببساطة، الصوت ليس ثنائيًا يعارض صوت اللا صوت. الصوت لا يتكئ على أي شيء، فهو ينشأ أو يخرج من تلقاء نفسه ولا يعارض الصمت أيضًا. إذا تحدثنا عن الأصوات، يجب أنْ نأخذ هذه الحقيقة في الاعتبار على الأقل. على أي حال ، في الكلام في العمل، لا يمكن أنْ يكون هناك انقسامٌ بين الدال والمدلول، ونبرة الصوت ولا إيقاع الكلام ليست نتاج الاختيار بين الاحتمالات الثنائيَّة المنفصلة والاحتمالات ذات الصلة في النظام.

جعل جاكوبسون رابطًا واضحًا على ما يبدو بين مفهوم اللغة كنظام ونظريَّة الاتصال التي توصل إليها مهندسو الهاتف. اكتشف في عرضه عن الشعر إمكانيَّة التعامل مع الشعر على أنه مادة شرعيَّة لعلم اللغة. يتطلب هذا القرار قابليَّة تطبيق مبدأ النظاميَّة الثنائيَّة للإشارات التي تسمح بالتواصل مع الشعر، وقد وجد نوعًا من التأكيد في اتجاهات بوصلة بول فاليري. يقتبس جاكوبسون نص فاليري من طبعة بلياد عام 1960. ها هو الاقتباس كما يظهر في مقال جاكوبسون: “القصيدة، تردّد مطوّل بين الصوت والمعنى”. ومع ذلك، يختلف نص فاليري عن هذا الموقف لأنه يقرأ: “القصيدة - هذا التردد الطويل بين الصوت والمعنى”. في نص جاكوبسون يظهر كلمة “تردد” بدون مقال.

بالنسبة إلى فاليري، لا يتعلق الأمر بمسألة تطابق مستحيل بين السيميائيَّة والدلالات، بل يتعلق بالانسجام والوحدة، الذي طال انتظاره بالتأكيد، ولكنه يتعلق بالاتحاد على الرغم من كل شيء. هذا ما أكده ديجي أيضًا في نص حديث عن الشعر المعاصر. دعنا نقول أنَّ التردّد الطويل يجهّز لاكتشاف الاتحاد بين السيميائيَّة والدلالات. أغامبين من جانبه يصر ويثابر لأنه يحدّد المعارضة التي تمت مناقشتها مع ذلك، وفقًا له، والذي يميّز التجزئة المتريَّة عن الدلالات.

عندما نقرأ جميع دفاتر فاليري، ومعظمها موجود بالفعل في النسخة التي راجعها جاكوبسون، ندرك مدى أهميَّة هذا الاتحاد بالنسبة إلى فاليري لأن الشاعر، حسب قوله، مشغولٌ باستمرار بتقديم نصه “الصوت في العمل”، الصوت الذي يأتي مباشرة من الأشياء التي نراها أو نشعر بها. لم يسأل جاكوبسون ولا أغامبين نفسيهما أسئلة حول خصوصيَّة شاعريَّة فاليري، والتي كان بإمكانهما مع ذلك اكتشافها في النص الذي قرأوه.

كما نعلم ، بالنسبة لفاليري، يجب أنْ تكون القصيدة هي المكان الذي يمكن أنْ تتجلى فيه فكرة خالصة، في شكل يعطي الشاعر فيه صوتًا لما هو حي وحاضر في الأشياء. يقول إنَّ الشعر هو “من طبيعة تلك الطاقة التي تنفق في الاستجابة لما هو ...”، لكنَّ هذه الاستجابة يجب أنْ تكون موضوعًا لفظيًا خالصًا، إذ لن يترك عقل الشاعر أو عقله شيئًا للصدفة. لذلك فإنَّ التردد المعني يتعلق بالسيطرة الكاملة على الرسالة الشعريَّة.

فاليري، حسب تعبيره الشهير، يريد أنْ تكون القصيدة وليمة للعقل، ومع ذلك فإننا لا نزال نسير في اتجاه بونفوا ونقول إنَّ الشاعر موجود، وأنَّه كائنٌ حي، وبالتالي سيموت ويموت. لذلك لا ينبغي له أن يتظاهر بأنه ذكاء بلا جسد. وبالتأكيد، يظل في عواطفنا وتأثيراتنا ظلامًا يمكن للشاعر أن يقرّر تجسيده في قصيدته مع الحفاظ على كل الجانب المثير من لقائه مع العالم. لقد تناولت مفهوم “المرضي” من فيكتور فون فايزساكر الذي طوّره في كتابه الأساسي حول دورة الشكل، موضحًا أن كل الإحساس هو في الواقع لقاء بين الوعي والعالم. الاجتماع ليس محايدًا أبدًا لأنه من ترتيب التبادل. وهذا ما يميّزه الكائن الحي أي الإنسان، بالترقب والمبادرة، بالدهشة والخوف، الذي يشعر بالتهديد ويعمل على الأمن والتعسف والحريَّة والقرار والحد منه. يمكن أن تكون هذه التجارب مروّعة: الفرح ليس بعيدًا عن الألم. إذا أراد الشاعر أن يظل صادقًا، فلا يجب أنْ يتهرب من هذا، بل أن يجعلهم يغنّون في قصيدته. يمكننا أنْ نقول أيضًا إنَّ الشاعر لا يستشير عقله فقط بل يختبر نفسه ويخضع للاختبار في مواجهة الواقع. أراد فاليري أنْ يضع مواجهاته مع ما هو موجود في سماء الأفكار النقيَّة، لمنحها شكلاً خالصًا. ومع ذلك فهو يصر أيضًا على ضرورة جعل الصوت أثناء العمل مسموعًا في القصيدة. من الواضح أنَّ هذا النشاط أو هذا البحث الشعري يتطلب وحدة وثيقة بين السيميائيَّة (ما ينتجه الصوت) والدلالات (معنى اللقاء). يمكننا أنْ نضيف أنه عندما نتحرك للرد، فإننا نتحرك، ونتوقع خارج أنفسنا، وأنَّ صوتنا لن يختار بين النغمات الثنائيَّة المتاحة في الكود. لكن يجب أنْ نضيف أنَّ فاليري اعتبر أنَّ هذه المشاعر شائعة جدًا، وغير نقيَّة جدًا وأراد تنقيتها في القصيدة، لوضعها في نوعٍ من السماء، يعترف بطبيعتها الوهميَّة. وبهذا المعنى، فإنَّ القصيدة لا تخليص، وبالتالي تسهم في زيادة غير الواقعي داخل ما هو موجود. لكنَّ الحقيقة في الوجود هي الموت أيضًا. مرة واحدة فقط اتخذ فاليري الموت على أنه موضوع قصيدة في “المقبرة البحريَّة” الشهيرة. 

يحدد أغامبين التردد المعني بعدم التطابق بين الوحدات المتريَّة والدلاليَّة. ويطلق على هذه الظاهرة اسم “التضمين”، مضيفًا أن إمكانيَّة الاستجواب هذه تحدّد الاختلاف أو تلعب دور التمييز بين الشعر والنثر. لذلك فهو يعالج الظاهرة في إطار المقاييس، بل إنه سيشمل تجانس القوافي في هذا الانقسام بين الصوت والمعنى. لا يتجاوز تعليقه أبدًا المستوى الشكلي البحت، كما لو أن هذا التفاعل بين الصوت والمعنى كان نهاية الشعر، بكل معاني الكلمة. سيجد بعد ذلك تأكيدات في بعض أطروحات العصور الوسطى، متجاهلًا حقيقة أن هذا الشعر تم تأليفه ليُغنى، وبالتالي فإنَّ اللحن هو وحدة الصوت. ينتقل أغامبين بعد ذلك إلى النتيجة الرئيسيَّة في رأيه، وهي ما يسميه “الإصدار” الذي لم يره الحديثون لأنه كان واضحًا للغاية. كان علينا أنْ ننتظر أغامبين. ولكن لا يزال هناك بعض لوران جيني الذي أظهر بوضوح أن النسخة تُشكِّل البيت في الداخل حول القيصريَّة وأن العبور من بيت إلى آخر لا يشكل الاختلاف الوحيد الحاسم بين النثر والشعر. هذه المناقشة الأخيرة تتعلق بالاختلاف الذي يصعب تحديده بين الخطاب الذي يتقدم، وهو النثر، وبين الخطاب الذي يتراجع عن نفسه، كما هي الحال في البيت، ولكن ليس هذا السؤال الفني هو الذي يجب أن يبقينا هنا، الشكل في نظامين من الخطاب لا ينفصلان عن المحتوى. الخلاف المشهور بين الصوت والمعنى هو في الواقع ظاهرة إيقاعيَّة تجعل سماع الترددات والأفراح والتوقعات، الإيقاع يجعل حاستي الكلمة محسوسة ومسموعة، تجعل الصوت مسموعًا، يجذب الصوت، مثل شعر القرون الوسطى، الذي جعله يُسمع في اللحن. لم يكن حتى نهاية القرن الرابع عشر، كما هو موضح في أطروحة يوستاش دوشامب حول فن “الإملاء” (1392) ، تلك العروض الموسيقيَّة الحديثة التي تهدف إلى تأليف موسيقى لفظيَّة في التلاوة. يمكننا أيضًا ملاحظة أن أمثلة أغامبين تأتي من مجال اللغات الرومانسيَّة حصريًا. يعتمد عرض هذا المقطع، لأسباب تاريخيَّة (خاصة ثبات اللهجة)، على عدد المقاطع والقافية، وهو ممكن وفعال بفضل ثبات حروف العلة الخاصة به. يجب أنْ تبني اللغات الجرمانيَّة والإنكليزيَّة موسيقاها على أساس توزيع المقاطع الصوتيَّة، وهذا هو عدد اللهجات وعدد الأقدام التي تجعل قياس البيت.

من أجل وضع مشكلة وحدة الشعر في منظورها الصحيح، يمكننا أنْ ننتقل إلى معاصر فاليري، كلوديل، الذي يقول إنَّ هذ البيت يصل إلى نهايته عندما يصل إيقاعه الداخلي، واندفاع وحركة المعنى في التكوين المفصلي إلى اكتماله أو اكتماله. حتى لو استغرق الأمر مقطعين لفظيين فقط. ويصر في ملاحظاته على البيت، على أنَّ البيت لا يتوقف بسبب قيود ماديَّة مثل المساحة المتوفرة على الورقة، ولكن لأنَّ شكله قد بلغ اكتماله. نحن نفهم أنَّ هذا المصطلح “رقم” يشير إلى صفة العقل والمصير للكائن، ما هو المقصود منه في أصله. في مقالاته حول ترجمة الشعر، يتبنى بونفوا (كيفيَّة ترجمة شكسبير، 1964) فكرة العدد هذه ويضيف أنَّ القيد مجاني بطريقة ما ، لأنه أداة بحث.

يبدأ أغامبين بالنظر إلى أنَّ الاختلاف بين الصوت والمعنى، وأن التنافر بين السيميائيَّة والدلاليَّة هو جوهر الشعر. يتبنى هذا الاختلاف بالادعاء بأنه جاكوبسون. المعنى، إذنْ، إشكالي لأنه لا يمكن تحديد موقعه بدقة، ولهذا السبب، لا يوجد معنى في وجهة نظر بنيويَّة هيكليَّة. وبالتالي، فإنَّ اللغة كنظام من الإشارات لا يمكنها التحدث إلا عن نفسها وعن نفسها. إذا كان للقصيدة أي سبب وجود أو “غرض”، فيجب أنْ يكون لغرض جعل اللغة تتحدث عن نفسها وعن نفسها. يعمم أغامبين هذه الأطروحة ويصوّرها في الماضي كما لو لم يكن هناك وقت أو تاريخ. تم القضاء على عدم التزامن في البعد المتزامن للغة كما تصورها البنيويون السيميائيون. من ذلك الحين فصاعدًا، لا يكون المعنى شيئًا أو يظل معلّقًا في تردد لا نهاية له، حتى القصيدة لا يمكن أنْ تضع حداً له. لا يزال مفتونًا بالهاوية، نوع من الافتتان الصوفي الذي لا يجب أنْ يقال عنه شيء.