الرواية العربيَّة وهموم الانكسارات الاقتصاديَّة

ثقافة 2023/08/16
...

ضحى عبدالرؤوف المل



تُمثل الرواية العربيَّة إنسانياً واقعاً يجعلها كائناً يفرض نفسه، لوجوده في الواقع المصيري المشترك الذي يُشكل نوعاً من تجربة روائيَّة يبدأ بها الكاتب، ويجعل منها بيئته التي ينشأ فيها، إذ يستطيع من خلال اكتشاف الشذرات في العالم الروائي الذي دخله عبر تجربته الشخصيَّة في الحياة التي تشكل تجربة فرديَّة له، وتمنحه المزيد من الاكتشافات التأمليَّة التي سجلها في ذاكرته الإنسانيَّة قبل الأدبيَّة، وتركها في عقله الباطن ضمن اللاوعي، لتنمو كي يستحضرها ذاتياً في ما بعد، لتكون حقيقة يتركها في التاريخ الروائي أو الأصح الأرشيف الروائي للواقع العربي بعيداً عن روايات الفنتازيا والخيال.
فهو يكشف للقارئ أزمنة عاشها أكثر من مرة بمعنى الزمن الواقعي بكل الأخطاء، والعثرات والزمن الذي يُبعد عنه الشوائب. ليحولها إلى رواية إنسان أي رواية فرد من البشر اختبر الحياة بما فيها ، وترك أثراً مكتوباً جعل منه رواية الإنسان الذي عاش تجربته الشخصيَّة مع آلاف من البشر، وشكلت تفاصيل حياته صراعات صامتة تحولت في ما بعد إلى عوالم روائيَّة تخيليَّة في أبعادها ومصائر شخصيات رصدها لتتكون منها الأحداث المبنيَّة على تجربة ذاتيَّة، إلا أنها تطرح العديد من التساؤلات المهمة إنسانياً. فهو من خلال ذلك استطاع اكتشاف السلبيات والإيجابيات في الحياة، وإنَّ ضمن وجهات نظره الخاصة التي قد تتوافق مع القارئ أو تتعارض معه ضمن تقبله الواقع المُعاش للكاتب، والذي كتبه بشكلٍ ذاتي، ويُحاكي من خلاله رفضه للأحداث التي عاشها أو تقبلها ضمن التقهقر بعيداً عن أدب السيرة الذاتيَّة، والتماهي مع الفترة التي عاشها الكاتب في تجربة تأثر بها وأثرت فيه بشكل لم يستطع نفيها من كتاباته مثل كتابات الأديب طه حسين قديماً، وحديثاً ما كتبته غادة السمان ورضوى عاشور وعلويَّة صبح وغيرهنَّ من الكاتبات كنوال السعداوي في محاولات ليتعافى المجتمع العربي من الأدران في ظل تضييق المساحات، والفساد الأخلاقي الذي يتعارض مع التطلعات المستقبليَّة للإنسان بعيداً عن التصنيف بين ما هو نسوي أو ذكوري. فهل يمكن استخلاص رواية الإنسان المتعافى من مشكلات البيئة العربيَّة تحديداً في الأدب الذي يحمل الكثير من الهموم الإنسانيَّة، والأمنيات الذاتيَّة للتحرر من قيود الواقع؟ وهل ما نشهده من عودة للرومانسيَّة هو الاتجاه الأسطوري أيضاً نحو الحكاية الشعبيَّة ودمجها بالشاعريَّة التي ينتج عنها رؤية مغايرة لواقعٍ أراد الكاتب الخروج منه بأسلوبٍ ليس بالجديد لكننا افتقدناه لفترة طويلة؟ أم أنَّ هموم الرواية العربيَّة في ظل الانكسارات الاقتصاديَّة سيتركها في مهب الذاتيَّة مستقبلاً؟ أم أنَّ المجتمعات التقليديَّة التي ينطلق منها الكتاب لا تزال هامشيَّة في الأدب الروائي؟

يسعى الكاتب في عصرٍ بات يُسمى ما بعد الحداثة إلى كشف الأحداث التي يعيش فيها خاصة ما بعد الكورونا، والتي تُشكل نوعاً من الذاتيَّة، وإنْ عاد بعض الكتاب إلى الأساليب القديمة في التيارات الكتابيَّة كأدب الشيخوخة عند الروائي حسن داوود  بعيداً عن التقهقر السياسي، وضبابيَّة الرؤية في ما حدث من ثورات، وما كُتب عنها ويحتاج إلى غربلة. لأنها شكلت طفرة إنتاجيَّة روائيَّة بعضها لم يستمر، لأنه رُصِدَ بشكلٍ ذاتي ما حدث معه ورصده إعلامياً، ومن ثم افتقر إلى السبب الذي جعل من روايته مقروءة في زمن الثورات، وقد لمسنا نبذها حالياً من القارئ نفسه حتى بعضها بات لا وجود له. بل والبعض منها اندثر فعلياً بعد توهج كبير ولا سبيل إلى ذكر العناوين هنا، فالانفصال عن الأدب في عالم الرواية الذاتيَّة لا يمكن أنْ ينتج عنه تحررٌ نبيلٌ قادرٌ على فرض ماهيَّة الحدث الذي يتكرر بمعناه العام منذ آلاف السنين حتى الآن كالحرب والسجون والاستبداد وحقوق المرأة وغيرها، وكأنهم يروون قصة حياتهم في الرواية بشكلٍ مبطنٍ مثل البرنيكة لطلال سيف وأدب السجون، ولكنْ بشكلٍ ذاتي اختبره الكاتب وعاشه وكتب عنه ومنحه قوة التأثر والتأثير لأنه بشكلٍ ذاتي هو نتيجة ما عاشه. وهل رواية الوشم للكاتب العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي حافظت على ذاتيَّة ما عاشه واختبره هو شخصياً في الأدب الروائي؟ أم أننا في زمن الانكسارات الاقتصاديَّة وضبابيَّة الرؤية السياسيَّة في العالم العربي سنفتقد للرواية الذاتيَّة القيّمة فعلياً مثل الروايات الغربيَّة التي تُمثل أنموذجاً حقيقياً لذلك. فهل سنشهد طفرتها بشكل يليق بها مستقبلاً؟