الحيويَّة الهادفة في نصوص (مهودر) المسرحيَّة قراءة تحليليَّة في كتاب (لون آخر للصمت)

ثقافة 2023/08/16
...

م.م. أحمد طه حاجو


 
يُعدّ كتاب (لون آخر للصمت) للكاتب المسرحي (عبد الحليم مهودر) تجربة في كتابة النصِّ المسرحي ذات أبعاد اجتماعيَّة وواقعيَّة، فبالرغم من أنَّ الكتاب تضمَّن خليطاً من تقنيات كتابة النصِّ المسرحي، فمنها الجاد, ومنها التراجاكوميديا، فكان هناك نص مسرحي متعدد الشخصيات وهناك نص (مونودرامي), وأيضاً نصّان موجّهان للأطفال، قد احتوت على جزء من الكوميديا الهادفة، وهذا أبرز ما يتميز به الكاتب (عبد الحليم مهودر) الكوميديا والسخرية من الحياة وإرهاصاتها ولا معقوليتها، فقد أصدر مسبقاً كتاباً بعنوان (حكايات مهودر الساخرة)، فكاتبنا يجيد توظيف الكوميديا في نصوصه المسرحيَّة والأدبيَّة. 

 إنَّ النصَّ المسرحي الأول الذي حمل عنوان (صوت الحجر) يعد نصاً (تحريضياً)، إذ إنه جسَّد الألم الفلسطيني عبر الرمز، فقد تناول الظلم وآثاره في البيئة الفلسطينيَّة, والمجتمع بصورة خاصة، وبيّن أيضاً دور الحجارة وموقفها وثورتها ضد الاحتلال الصهيوني، وانتفاضتها الواضحة والتي كانت بمثابة صرخة مدوّية أكثر من غالبيَّة مواقف العرب المتخاذلة تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة، والذين لاذوا بالصمت، ففي أول الحوارات للرجل نراه يقول في: ((الرجل- السلام عليكم أيها النائمون))، في إشارة واضحة إلى استفزاز الجمهور من أجل اتخاذ موقف وقرار تجاه الواقع المنتهك، ذلك الواقع الدنيء بسبب صمتهم وإهمالهم.

 كما أنَّ الشخصيات التي تضمنها النص هي (حجر، شاب، رجل، جندي صهيوني) فكانت البطولة للحجر، الذي راح يتحدث بقوة وبسالة وغيرة، في إشارة مخالفة لطبيعة الأشياء، وعند إثارة الخيال بهذه الصورة فإنَّ الرسالة المضمرة في النص المسرحي تعمل على دفع مخيلة المتفرج واستفزازها بأنَّ هناك قضيَّة كبرى ينبغي الانتباه لها، كما أنَّ النص يثير سؤالاً جوهرياً، مغزاه (إذا الحجر تكلم وصرخ، فأنتم متى تصرخون وتقولون وتتحركون؟).

 أما النص الثاني فكان بعنوان (السفينة) ويندرج ضمن (مسرح الدمى) الموجه للطفل، فهو نص تربوي يؤكد على ترسيخ قيم التعاون والمحبة والاحترام، عبر عدد قليل من الشخصيات وهي (البحّار، الراوي، القمر، الشمس، العصفور، النورس، الحمار، الفيل) فالبحّار يستبد في رأيه ولا يسمع (القمر) عندما نصحه بأن لا يبحر لأنَّ هناك عاصفة، لكنه يبحر وتواجهه العاصفة فتتسبب في تحطم وغرق سفينته، وبالتالي يستطيع النجاة عبر السباحة إلى جزيرة صغيرة، وسرعان ما يتعرف على عدد من الحيوانات التي تعيش في تلك الجزيرة، لكنها لا تتعاون معه في البدء لخوفها من الإنسان بصورة عامة، لأنَّ النظرة المتكونة لديها بأنَّ الإنسان مصدر إزعاج دائم لها، فيعمل على كسب محبتها عبر مساعدته للفيل ومعالجته لجرحه، فيتعاون الجميع معه في بناء سفينته، ويعود سالماً إلى مدينته.

 إنَّ (البحار ) قد تلقى درساً وتعلمه ودفع ثمنه، وهو أنه كاد يفقد حياته نتيجة (العناد)، ولم يستطع أنْ يبني سفينة أخرى إلا بعد أنْ غيّر أسلوبه مع الآخرين، مما دعا الحيوانات إلى احترامه ومساعدته، بعد أنْ تعلم درساً نتيجة تهوره وعدم سماعه للنصيحة، فالنص يدعو الأطفال إلى سماع النصيحة من الكبير، وتنفيذها وعدم الاستسلام للعب وفعل الأفعال غير المحسوبة.

 إنَّ الأبعاد السيكولوجيَّة التي يناقشها النص ضروريَّة، لأنها تمثل المرحلة العمريَّة الموجه لها، فمرحلة الطفولة هي مرحلة الاستبداد بالرأي والعناد لدى الطفل، فيحتاج إلى تجسيد قصص مثيرة ومؤثرة في نفس الوقت كي تكون مقنعة بالنسبة له، ولتبقى في ذاكرته بعد انتهاء العرض المسرحي. 

 كما أنَّ رمزيَّة النص تعكس الواقع السياسي العربي، لا سيما أنَّ السفينة ترمز إلى الدولة، نسبة إلى أنها تحمل العديد من الركاب، ويمكن الاستعانة بها برمزيَّة بأنها تمثل (الدولة) المتحكمة بالعديد من الناس (وهم الشعب) فقبطان السفينة الذي هو (البحار) عندما تهوّر أغرق سفينته، كما فعل العديد من القادة والرؤساء العرب الذين سقطت بلدانهم أمام موجة (الربيع العربي) الذي أطاح بجبروتهم وكشف عن خواء قياداتهم، التي شُيّدت بالحديد والنار والتجبّر والغرور والاستبداد بالرأي. 

 كما أنَّ النص المسرحي الثالث الذي حمل عنوان (قبل رحيل إبليس) وهو (مونودراما) مكون من شخصيَّة واحدة (امرأة تخطت الخمسين) وهي عجوز تتلاعب بالقيم والمواقف فتختلق الفتن وتفتعل المشكلات، فهي تجسد البعد النفسي للسياسات الاستعماريَّة المتحكمة بالشعوب، وتجسد كيفيَّة تسيير الأوضاع، متجاهلة جميع الأعراف من أجل تحقيق مصالحها وغاياتها، فهي مسرحيَّة إيقاظيَّة تنويريَّة، لأنها تثير الفكر والوعي تجاه المواقف الدائرة في الوسط الاجتماعي وتدعو إلى التأمل والتفكير واتخاذ قرار. فهي تختلق المشكلات عبر بناء خطة محكمة، ومن ثم تقوم بحل المشكلة عبر تفكيكها بطريقة غير منطقيَّة (سمجة)، وهذا يعكس القرارات الأمميَّة التي تمارسها الدول الاستعماريَّة على بلدان العالم الثالث، فهي تختلق الأزمات وتحقق مآربها, ومن ثم تحلحلها وكأنَّ شيئاً لم يكن، ويتم ذلك بمساعدة الإعلام الأصفر الذي يروّج للزيف والأكاذيب. 

 أما النص الرابع الذي حمل عنوان (قط وفي رقبته قلادة) فهي مسرحيَّة للأطفال، تميزت هذه المسرحيَّة بشخصيات عدّة، لإضافة الحيويَّة وتحقيق الإبهار وهو العنصر الذي ينبغي أنْ يكون مهيمناً في النص أو العرض المسرحي الموجه للأطفال.

 إنَّ فكرة المسرحيَّة تتركز على مصلّح للآثار ومجموعة من الأطفال بقربه، ويقوم مصلّح الآثار بالحديث للأطفال عن قيمة الآثار المعنويَّة، وحثهم على رفض القيم السائدة من (الواسطة، والمحسوبيَّة، والفساد)، وجسّد ذلك عبر رفضه طلب أحدهم من الذين لا يحملون شهادة دراسيَّة للعمل معه مقابل الرشوة، كما أنه يعمل على ترغيب الأطفال باحترام تراثهم وآثارهم وعدم التفريط بها مهما حصل، لأنها تمثل إرثاً حضارياً للبلد، كما أنَّ النص يتضمن بداخله نصاً آخر وهو أنَّ مصلح الآثار يقوم بقص قصة للأطفال عن (قط الوالي)، وكيف كان هذا القط منبوذاً بعد أنْ طرده صاحبه وتدور الأحداث ويتجول في الأسواق ويقوم بطرده كل من الباعة وأصحاب المحال في السوق، لكن عندما يصبح (قط الوالي) وعلى رقبته علامة دالة مكتوب عليها (قط الوالي) يصبح معززاً مكرماً في السوق وكل الذين طردوه من محالهم يصبحون يتملقون له ويرحبون به.

 إنَّ الفكرة تجسد الواقع الاجتماعي الآني، فكثير من الناس يغيرون مواقفهم مع الآخرين بحسب مستوى المقابل، فمن يكون بسيطاً يتم تجاهله، لكن عندما يتبوأ منصباً ما، يأتي له كل الذين تجاهلوه مسبقاً راكعين له، من أجل مصالحهم، فهذا النموذج من المجتمع وإن كان كبيراً، مرفوض وينبغي محاربته، كي يتم الإصلاح النفسي والمجتمعي للجيل المقبل. 

فالهدف من النص ترسيخ أهم القيم في كيفيَّة تقييم الآخرين، وينبغي احترام الجميع بغض النظر عن المستوى المعيشي، فالمواقف هي التي تحدد احترام الناس وليس المادة. 

 إنَّ الكاتب المسرحي (عبد الحليم مهودر) وُفّق في نصوصه المسرحيَّة، فجميع النصوص حملت قيماً وأهدافاً سامية من شأنها دفع المجتمع للتحرك ورفض السائد، فالحيويَّة واضحة في نصوص (مهودر) المسرحيَّة، سواء كان في النص الموجه للكبار أم الموجه للأطفال، إلا أنَّ جمع نصوصه المخصصة (للكبار والأطفال) في كتاب واحد قد يشتت القارئ النوعي المتخصص والراغب بقراءة نوع محدد، وكان يفضّل أنْ يفصل بين الاثنين فلو كانت النصوص الموجهة للكبار في كتاب مستقل والنصوص الموجهة للأطفال بكتاب آخر لكان أفضل للمخرج الذي يروم الإخراج من تجربة (مهودر) المسرحيَّة التي قد تفتح أمامه أفقاً أوسع عبر اختياره الفئة (الكبار أو الأطفال) ويتوجه لها، من أجل الغور بأعماق التجربة، كما فعل مسبقاً الكاتب المسرحي الراحل (جبار صبري العطيَّة) الذي اختص بالجزء الأكبر من نصوصه بالأطفال والتي قام بجمعها وطباعتها الفنان المسرحي (هلال العطيَّة) بكتابين منفصلين. 

فتجربة الكاتب المسرحي تتبلور للقارئ والمخرج المسرحي بصورة أكبر من خلال قراءة أكثر من نص مسرحي، وهذا يدعو إلى فهم توجه الكاتب ومرجعياته الفكريَّة والإيديولوجيَّة التي دعته لاختيار التوجه المسرحي والفكري الذي يتبناه عبر منجزه.