لوحاته تحمل عاطفة رمزيَّة ستار كاووش: أعيشُ داخل أعمالي وأنسجمُ معها ككائنٍ واحد

ثقافة 2023/08/16
...

بغداد: نوارة محمد

إذا كانت ولادته ببغداد قد شكلت جيناته وفصيلة دمه فإنَّ الغربة رسمت ملامحه، هذه التراكمات التي عاشها الرسام البارع والقراءات الطويلة والرؤى البَصَريَّة جعلت منه ظاهرة في عالم التشكيل. ستار كاووش صاحب التجربة الفريدة والأحلام والطموحات التي سرعان ما تحولت الى نجاحاتٍ باهرة هو من يحتفي به ملحق الصباح الثقافي.

ولد ستار كاووش في العام 1963. تخرج في كليَّة الفنون الجميلة في بغداد عام 1990، ثم اختار الهجرة الى هولندا، وهناك بدأت رحلة الفن التشكيلي لديه. يعدُّ واحداً من أكثر التشكيليين العراقيين نشاطاً خارج البلاد. حرصَ على إقامة معارض شخصيَّة في بلدانٍ عدة.


وعن هولندا يقول كاووش: “فتحت لي نوافد تطلُّ على تفاصيل واتجاهات كثيرة. ورغم أني أقضي ساعات عديدة يومياً في المرسم، فقد وفَّرَ لي وجودي في هولندا السفر الى أماكن مختلفة، إذ أخصص بعض الأيام لزيارة المتاحف والمعارض الجديدة، وأحياناً أسافر لبعض البلدان من أجل حضورٍ معينٍ أو زيارة متحفٍ يعرض مجموعة جديدة من اللوحات. وهكذا إضافة الى المعارض التي أقيمها، يمكنني الاطلاع على فنون وأساليب مختلفة، وبين هذه الأساليب والأفكار الفنيَّة ما يلبي حاجاتي الجماليَّة ويضيء لي الطريق للمضي قُدماً مع عالمي الشخصي، وفي كل مرة أعود فيها من زيارة متحف، أمضي نحو مرسمي مُحمَّلاً ببعض الأفكار والتفاصيل والمعالجات التي أشعر بأنها تجعل لوحاتي أجمل”.

عالم ستار كاووش السحري الذي يتمثل في حيويَّة الألوان، احتلت الوجوه مساحة كبيرة من لوحاته يجد أنَّها تعكسُ نظرته للحياة وتعدُّ تجسيداً للجمال وهو يتعايش معها كما لو أنها كائنٌ واحدٌ يقول إنها جزءٌ لا يتجزأ منه: “لا يكفيني العيش قرب أعمالي فقط، لذا يمكنني القول بأني أعيش داخل أعمالي، أنسجم معها حتى نكون كائناً واحداً، وما يسهل هذا الأمر هو أنَّ أعمالي تشبهني كثيراً، لأنها تمثل وجهة نظري نحو الجمال، وهذه الوجوه التي ذكرتيها هي ملاذي الشخصي. واختلافي الجوهري عن الكثير من الفنانين، هو محاولتي أنْ أضعَ لمستي الشخصيَّة على كل ما أرسمه، وبتعبيرٍ آخر هو أنَّ لوحتي سواء كانت تمثل عاشقين في لحظة خاصة أو مشهداً للمدينة أو بورتريتاً لشخصيَّة ما أو مشهداً مدينياً أو امرأة وحيدة تحيطها الطبيعة وأوراق الشجر، فكل ذلك أرسمه بأسلوبي الشخصي وبتقنيتي الخاصة التي تحمل سماتي الفرديَّة كفنان. وهذا هو جوهر الرسم بالنسبة لي، فحين يكون لك طابعك الخاص كفنان، يمكنك أنْ تعرفَ طريقك جيداً وتؤثر في الآخرين”.

كاووش وبالرغم من تواجده الطويل خارج البلاد إلا أنَّ تأثيراته الفنيَّة في التشكيليين الشباب تبدو ظاهرة وهو يعتقد أنَّ هناك حاجة لهذه السلسلة من الارتباطات بين الأجيال التي تعزز الفنون: “مدهشٌ أنْ يكون لي تأثير في شباب الفنانين. هذه السلسلة مثل خرزٍ ملونة تصطفُّ خلفَ بعضها لكتمل في النهاية قلادة ثمينة. والفنان المحترف والحقيقي عليه أنْ يتفاعلَ أو أنْ يستلهمَ شيئاً من الأعمال التي يحبها، أنا أيضاً وفي كل مراحل حياتي حاولتُ أنْ أطلَّ على أعمال الكثير من الفنانين الذين تأثرت بهم هؤلاء كانوا كما لو أنهم يحملون الفوانيس أمامي حين أتعثر في ظلمة الطرقات. وهو بهذا على العكس الرسام البدائي الذي لا يجد من يتأثر به، نعم الفنان الحقيقي هو من يحب أعمال غيره ويستفيد منها كي تعينه على التقدم”.

صدر عن تجربة ستار كاووش التشكيليَّة وحياته خمسة كتب ملونة، هي: “غواية الحركة في تجربة ستار كاووش الفنيَّة”، للناقد عدنان حسين أحمد، و”أصابع كاووش”، الذي أعده الشاعر موفق السواد عن قصائد هولنديَّة كتبت خصيصاً عن لوحات كاووش، و”كاووش، غموض الرسام”، أصدره اتحاد الفنانين الهولنديين بمناسبة مرور عشر سنوات على وجود الفنان كاووش في هولندا، و”مدينة كاووش”، وهي سيرة حياة الفنان كاووش، للكاتب والناقد، خالد مطلك، و”نساء التركواز”، كتبت المقدمة شارلوتا هوخنز، مديرة متحف العالم في مدينة روتردام الهولنديَّة، وصدر بمناسبة مرور 15 سنة على وجود كاووش في هولندا واستخدمت المئات من لوحاته كأغلفة كتب، كما أنَّ رسوماته كرمت في أكثر من مكانٍ واستعملت كطوابع بريديَّة يرى أنَّ ذلك قد يكون نتيجة الطابع العاطفي أو الرمزيَّة التي تحملهُ لوحاته: “ربما لأنَّ لوحاتي تحملُ شيئاً من الرومانسيَّة أو العاطفة أو الرمزيَّة، حصدت هذا الاهتمام، الأمر الذي يجعلها مناسبة لأغلفة الكتب، ووجودي وسط هذا العالم الخيالي الذي كونته خلال سنوات طويلة سببٌ آخر. سرعان ما أصبح المرسم ملاذي وسعادتي أصبحت منتجاً للفن التشكيلي والكتابة، فأنا أكتبُ عموداً ثابتاً باللغة الهولنديَّة في واحدة من أهم المجلات التي تصدر في الأراضي المنخفضة، وهي مجلة أتيليه. وهذه المجلة التي كنت في بداية مجيئي الى هولندا أشتري أعدادها القديمة للاطلاع على صور اللوحات فقط، لعدم معرفتي وقتها باللغة الهولنديَّة، والآن لديَّ عمودٌ ثابتٌ في ذات المجلة، ويتابعه الفنانون والمهتمون بشكلٍ جيد. يضاف الى ذلك انتهائي هذا الأسبوع من تأليف كتاب باللغة الهولنديَّة، تحدثت فيه عن ثقافة هولندا بشكلٍ عام، وقد دفعته لدار نشر في أمستردام وبانتظار صدوره بوقتٍ قادم”.

وبالرغم من أنَّ أسلوب ستار كاووش يكاد لا يتغير لكنه يراهنُ على الجذب وهو يفسر ذلك في قوله: “أنا بطبيعة الحال رسامٌ تشخيصيٌّ، أي أرسم أشخاصاً بطريقتي الخاصة، وهؤلاء رغم تباينهم، فهناك ملامح وتفاصيل وروحٌ واحدة تجمعهم. هناك إطارٌ أحرك الشخصيات بداخله كما يحرك المخرج المسرحي شخصياته، وهذه العمليَّة أسميها رؤية الفنان، إنها مثل المرآة التي تعكس روحه على قماشات الرسم. وفي النهاية يبقى الشيء الأساسي بالنسبة لي، هو أنْ أقدمَ لوحة جذابة وجميلة ويتفاعل معها المشاهد سواء كان عراقياً أو هولندياً أو من أي بلدٍ آخر. ويمكن القول إنَّ فكرتي الجوهريَّة في الرسم هي الإنسان. والجمال له أجنحة وهو يطير بسهولة ويُسرٍ ليصلَ الى الناس، وهكذا أطمح دائماً أنْ أرسمَ لوحاتي لجميع للناس. وأرى أنَّ كلَّ الأماكن تصلحُ مكاناً لعرض هذه اللوحات، فمثلما أريد أنْ تُعَلَّقَ لوحاتي في المتاحف، فأنا أريدها أنْ تكونَ أيضاً في بيوت الناس ومكاتبهم وأماكن عملهم. الجمال ملكُ الجميع.

 اشتغالات كاووش في فترة من الفترات على أسلوب اللوحات المتعددة لموضوعٍ واحدٍ تعكسُ انفعالاته، الأمر الذي يؤثر فيه في الخارج وهو يعتقد أنها الوسيلة لتحقيق ذلك: “في الحقيقة كانت تلك الطريقة مناسبة لانفعالاتي الوجدانيَّة والعاطفيَّة، وكان اللون هو الوسيلة لتحقيق ذلك. يُضاف الى ذلك أنَّ هذه العمليَّة كانت ذريعة جماليَّة اتكأتُ عليها كي أمضي قُدماً مع الرسم من دون توقف، نعم، فهذا يوفر لي العمل طويلاً ويجعل اللوحات مثل حكاية متواصلة لا تريد الانتهاء. وقد بدأت ذلك في معرضي الشخصي (سيقان وأرصفة) سنة ١٩٨٧ في قاعة التحرير ببغداد، في ذلك المعرض لم أهتم بالوجوه، بل رسمت سيقان الناس وأقدامهم فقط، وهم يظهرون بحالات مختلفة، أردتُ حينها أنْ أقول بأنَّ الجزء يعبر عن الكل إذا استخدمناه بطريقة معينة. ثم جاء معرضي (جسد المدينة) في مركز الفنون الذي رسمت فيه الشوارع وزحام المدينة المكتظة، وتبعته بمعرضي (الباص الأحمر) بقاعة الرشيد وهو امتدادٌ لمفردات المدينة التي أحبها كثيراً، وأقصد بغداد. حتى آخر معرضٍ شخصي لي في بغداد بقاعة الرواق سنة ١٩٩٣ قبل سفري من العراق، وكان بعنوان (رجل وامرأة) ورسمت في كل المعرض شخصيَّة واحدة، هي امرأة أحببتها كثيراً في ذلك الوقت، وقد كان الرجل الذي يظهر معها في اللوحات هو أنا. كان المعرض تحيَّة جماليَّة لامرأة مَرَّتْ كالشهاب في حياتي، وتحيَّة لعشاق بغداد التي غادرتها بعد هذا المعرض”.

المرأة التي شكلت جزءاً مهماً من سيرة حياة كاووش التشكيليَّة بدت وعكس الاستخدام التشكيلي للموروث العراقي عصريَّة وإغوائيَّة، يرى أنَّها العتبة الأولى للدخول الى عالم الإبداع: “الرسم بشكله العام هو نوعٌ من الغواية، وعلى الرسام أنْ يكون منسجماً مع فنه، كي ينتج لوحات تُبهر الآخرين وتستوقفهم، لذا فأنا حين أحب امرأة أو أرسم امرأة فالأمر عندي سواء. الإبداع غواية وكل شيء جميل يحمل نوعاً من الغواية، إنَّها العتبة الأولى للدخول الى عالم الإبداع، وكل الفنانين الذين رسموا المرأة، سواء كان بيكاسو أو مودلياني أو جماعة ما قبل الروفائيليين وحتى فناني عصر الباروك، كانت نساؤهم تحمل شيئاً من اللهب، ومحملات بالدفء والعاطفة. وأنا حاولتُ أنْ أضيفَ الى الدفء، ذلك الذكاء الغامض الذي يشعُّ من عيون الموديلات أو من مناخ اللوحة العام، وأنقل ذلك الى عين المشاهد”.