موت الشعر

ثقافة 2023/08/17
...

 حسن الكعبي

“لكن ما يبقى ويدوم، يؤسّسه الشّعراء” هولدرين.
يبدو أنَّ الاهتمام بالسرد وتحول معظم الشعراء العراقيين اليه، امتلك قوة الإغراء للأخذ بمقولة (موت الشعر) التي تعد من مقولات عصر الحداثة الذي هيمنت على مجمل تصوراته لغة جنائزيَّة أعلنت ميتات كثيرة للمفاهيم والمقولات منها (موت المؤلف، وموت النقد، وموت الشعر، وموت الانسان... وما الى ذلك من ميتات في المشهد الجنائزي لعصر الحداثة) الذي انتهى به الامر هو الآخر بأن يعلن عن موته، في عصر ما بعد الحداثة بل وموت مفاهيمه ومقولاته ومتبنياته التي امتلكت قوة الإغراء والهيمنة على المشهد الثقافي العربي والعالمي.
 تكمن مفارقة عصر الحداثة في أنه يمتلك اهمية قصوى في تطوير مفاهيم الثقافة والارتقاء بها وتغيير رؤى ومفاهيم تقليديَّة ذات طابع رجعي، لكن ذلك لا يعني أن عصر الحداثة لم ينتج مقولات رجعيَّة أربكت المشهد الثقافي ومنها مقولة (موت الشعر) التي سادت عصر الحداثة وما زالت تلقي بظلالها على المشهد الثقافي في الراهن.
إنَّ تطرفات الحداثة (بطبعتها العقلانيَّة) من خلال إعلانها (موت الشعر) جاءت بمعونة من سيادة تيار العقلانيّة الغربيّة التي نظرت الى شعر الحداثة الرومانسي بوصفه اغراقاً في الوجدانيّة وعودة للتوحّش، ومن ثمَّ فإنّه يتضاد مع صعود العقلانيّة التي يقتضيها الواقع آنذاك، وبدلاً من أن تتوجه بوصلة النقد الى ترشيد الشعر الى مسارات التفاعل مع التصورات العقلانيّة ومواكبتها واستلهامها في المشاريع الشعريّة والنأي بهذه المشاريع عن اغراقاتها الوجدانيّة، واشكاليات الاغتراب عن الواقع فإنّها أعلنت عن موته لصالح صعود العقلانيّة، لكن فترات الجدل وتضاد العقلانيّة مع الشعر لم يدم طويلا فقد تعافت العقلانيّة من تطرّفاتها وتخلّصت الرومانسيّة الشعريّة من إغراقاتها الذاتيّة واغتراباتها عن واقعها لتعلن عن تصالحهما.
إنَّ هذا التصالح بين الفكري والشعري في الفضاء الغربي، اسفر عن عودة الشعر الى مركزيته الثقافيّة ودخوله الى منطقة الصناعة والتمأسس، بحيث اصبح للشعر يوما عالميا أسوة بالمناسبات العالمية الكبرى، فقد ادركت التصورات النقديّة والثقافيّة عدم امكانية موت الشعر وان كان في سياق الاطلاقات المجازيّة فإمكانية موت الشعر ستعني بالضرورة امكانية موت الكينونات الجماليّة التي يأتي الشعر في مقدمتها وعلى هرمها - بمعنى ان الشعر - يمكن ان يغترب عن واقعه او يغرق في ذاتيته او ينزاح عن مركزيته وينحسر عن دائرة الاهتمام الثقافي، لكن لا يمكن ان يفضي ذلك الى موته نتاج الخواص الجماليّة المنتجة للشعر حتى في أكثر حالاته تردياً. إلّا أنَّ هذا الشفاء في الفضاء الغربي جاء بعد انتقال عدوى التطرّفات الثقافيَّة الى الفضاء العربي الذي بدأ يعلن عن هذه النوعية من الميتات بحيث ان المشهد الثقافي العربي أصبح أكثر جنائزيَّة من المشهد الثقافي الغربي في طوره الحداثي والما بعد حداثي.
إنَّ التطرّف الثقافي العربي بدأ في عصر الحداثة وأخذ يتفاقم الى ما بعدها وكانت أكثر تمظهرات هذه التطرّفات (وتحديداً في الوقت الراهن) في المشهد الثقافي العراقي الذي يعد مشهداً شعرياً بامتياز، فمع انفتاح المشهد العراقي على السرد والاحتفاء به وتحول معظم الشعراء الى السرد بدأ الاعلان الرمزي عن موت الشعر في سياق اهماله نقديّاً وقلة نشره في الدوريات الثقافيَّة، لتقع المشهديَّة الثقافيَّة في دائرة العقدة الغربيَّة القديمة التي - اشرنا اليها – ومن دون محاولة توجيه مسارات الشعر للتعاطي مع المتغيرات الثقافيَّة - ونعني - بهذه المتغيرات المنتجات السرديَّة التي اصبحت ملامحها واضحة ومهيمنة في المشهد الثقافي العراقي، فالسرد هو انتاج ثقافي يحتفي بالمتغيرات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ويتفاعل معها، والشعر بإمكانه ان يحتفي بهذه المتغيرات ليجاور السرد في انتاجيته وعلى النقد في سياق ذلك أن يتنبّه الى هذه الخاصيّة ويوجه الشعر الى هذه المسارات - أي - بخلق مجال يوازي بين الجمالي والفكري والثقافي، لأنَّ هنالك نتاجاً شعرياً في خضم الموجة الجنائزيَّة يُؤسس لمشروعه ويحصِّن نفسه عن مفاصل الاقصاء الرمزي والفعلي، ومن ثمَّ فإنَّ الشعر لا يمكن ان ينحصر في دائرة المنتجات النصوصيَّة بل إنه قادر على تكوين مشاريعه التي تحتفي بالمتغيرات الواقعية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والثقافي دون ان يفقد خواصه الجمالية ، فهو قادر على خلق مجالات توازي بين الجمالي والثقافي كما حدث في المشهد الغربي الذي لا يقل المشهد العربي عنه أهمية.
هذه التصورات حول الشعر وارتباطه بأنظمة الفكر والثقافة تتجسد بما هو أعمق من ذلك في رؤى - مارتن هايدغر-  الفلسفيَّة، إذ يرى أنَّ “الشعر مصدر للحكمة والفلسفة، وأنه يمكن أن يساعد الإنسان على فهم الوجود والحياة”.