نظرة الوحش

ثقافة 2023/08/19
...

  مهند الخيكاني

في زقاق صغير من أحياء بغداد القديمة، كان هناك شابٌ في مقتبل عشرينياته، بهي الوجه، غير مؤذٍ، يتيم الأب ويسكن مع أمه. تحبه وتتقبله بسهولة ما إن تراه. مرةً كنت عابرًا من أمام ذلك الزقاق، ماضيا الى مكتبة صديق لي تجمعني به علاقة متينة، علاقة تمتد الى المدرسة الابتدائية قبل أن نغادر هذه المنطقة الى منطقة اخرى. وشاهدت ثلاثة شبانٍ بأعمار متقاربة، ومعهم رجل كبير بالسن يتضاحكون بطريقة مفتعلة يخالطها القليل من الشتائم الشهيرة، مطعّمةً بقليل من النكات السخيفة التي لا تُضحك أحدا سواهم، وكان في وسط تلك المعمعة ذلك الشاب الذي يسمونه لطيف، برغم أنه ليس اسمه الحقيقي، لكنهم ينادونه بذلك الاسم بسبب تأثره بالدراما السورية وشغفه بالممثلات السوريات عندما يتعجبن بـ "يا لطيف". لمحته وكان يظهر عليه أنه في مأزق لا يستطيع الفكاك منه، وللدقة أكثر كان موقفه يشبه من تعرض للإذلال بعد أن احتلت عصابة قذرة محل سكنه، الى هذه الدرجة كان الوضع مخزيا. بصق أحدهم على شعره من الخلف، وضحك ضحكة مثيرة للاشمئزاز، ودفعه الآخر مستفِزا له، يطالبه بالرد، وبقيتُ عالقًا في هذا المشهد المتكلِّف الذي لا يمت للعقل ولا للأخلاق والانسان بأية صلة. وبينما كان لطيف يتلقى الكدمات عبر الكلمات والبصاق والعلكة والقبضات، كانوا يصعّدون من الحدة في سلوكهم كلما حاول المقاومة، كأنه يغريهم لمتابعة دور المفترس كلما ارتسمت على وجهه ملامح رد الفعل.
السماء أمطرت مطرا خفيفا، والشمس غائبة والشوارع فارغة، إلا من افراد هنا وهناك متناثرين لجلب حاجيات مستعجلة، ولا أحد لا أحد تدخل لإنقاذ لطيف منهم، بل حصل العكس من ذلك، كان العابرون يرمقونه بنظرات موجعة، نظرات ملؤها الاحتقار والكراهية المفرطة غير المبررة، بالإضافة الى الشعور بالاستعلاء والأفضلية.
مضى الوقت تحت المطر وكنت أشبه بالمُخدَّر، بين مصدِّق لما أراه وناكر ٍ له. حتى ناداني صديقي صاحب المكتبة الذي كان بانتظاري، فوجئ عندما لمحني واقفا أراقب المشهد من بعيد. ضحك قليلا. سحبني من ذراعي الى المكتبة فالجو بارد والشتاء على أشده، بعدها أخبرني: هذا الولد يعاني خللا في رأسه ، لا يغرينك شكله. فنظرت اليه بغضب وقلت له: أنت أيضا تعاني من خلل في رأسك. وخرجت من المكتبة مسرعًا الى الزقاق، كنت عازمًا على التدخل وإيقاف هذه الكوميديا الهزيلة، لكني فوجئت بخلو المكان كما لو أنهم ذابوا. ركضت الى الشارع الرئيسي، أوقفت سيارة تكسي، قررت العودة الى المنزل، أضغط على دواسة الوقود من أعماقي، أريد الابتعاد عن المكان قدر المستطاع. أريد للسيارة أن تسرع.
ظلت صورة لطيف المذعور تطاردني حتى بعد أيام من الحادثة، ربما بالنسبة له أصبح أمرًا مشروعًا، أمرًا أجمعت عليه عيون الناس، ودأبت على تنفيذه دون رحمة، كما لو أنه خسر شرط الاتفاق للعيش معنا. أنت تعاني من خلل في رأسك، إذن أنت منتهك، يجب أن تهان وتضرب وتسمع أنواع الكلام الفج والشتائم الجارحة، ولا ترد بشيء، لأنك لا تفهم أو لأنهم يعتقدون أنك لا تشعر ولا تفكر. وهكذا ظلتِ المحكمة الوهمية التي عقدتها في رأسي وأنا أدافع عن لطيف مشتعلة. وكلما تناسيت قليلا ومضيت في حياتي، تذكرت مجددا كيف كانت ترتديهم تلك النظرة العجيبة، تلك النظرة النادرة التي تظهر عندما يتأكد البشريُ الهزيل أن الطرف الآخر عاجزٌ عن المقاومة والناس من حوله يؤيدونه ضمنيًا، ويبعثون له رسائل الاستخفاف المشفّرة مرةً والضحكات الماكرة القصيرة مرة أخرى، وكيف يتحول الى وحش يمكنك أن تراه بوضوح عبر عينيه الحاقدتين بلا سبب.
لم أستطع البقاء ساكنًا. بعد أسبوع، أجريت مكالمة قصيرة، سألت صديقي فيها عن لطيف، وكنت متلهفًا لفعل شيء، أي شيء، فأخبرني ببساطة أنهم أدخلوه مستشفى المجانين بعد أن ساءت حالته أكثر من السابق، إذ وصلت به الحال الى التجوال عاريًا في الحي والأكل من القمامة. غضبتُ في البداية ثم حزنت وكان هناك ألم يفرمني من الداخل، بعدها ضحكت، انتشيت ثم قلت في نفسي: لقد نجا الملعون، لقد نجا من الوحوش!.