الشغفُ السرديُّ

ثقافة 2023/08/21
...

  محمد صابر عبيد

ينتسب مفهوم «الشغف السردي» إلى عائلة القراءة والتلقي، بوصفه مفهوماً إجرائيّاً فاعلا على أكثر من مستوى قرائيّ، داخل نسق فعاليّة الإمتاع والإدهاش والإغواء التي تمثل أحد أبرز عناصر الاستقبال الأدبيّ، فقراءة النصوص السردية تفترض أولا التوصل إلى حالة الشغف العالي بالمقروء؛ حين يتوفر على حساسيّة سردية نوعيّة تقوم على حضور رطوبة سردية منعشة في كل نصّ، على الرغم من أن كثيراً من النصوص السردية تخلو كثيراً أو قليلا من هذا الشعف السردي لكنها تمتلك حضوراً ماثلا في ذاكرة القراءة لأسباب كثيرة، بما يؤكد طبيعة المفهوم المشتبك والمتعدد والمتداخل للقراءة؛ على النحو الذي لا يمكن فيه اعتماد قانون موحد وثابت عليه أن يحكم هذه الطبيعة ويرهنها بقناعات حاسمة ونهائيّة.
تتعدّد نظريات القراءة والتلقّي بحسب مرجعيّات كلّ نظريّة ومقاصدها وسياساتها التي يمكن أن تلتقي في بعض المظاهر النظريّة العامّة، لكنّها تختلف في إجراءاتها عمليّة شديدة التنوّع بما يجعل منها صورة شخصيّة ذات هويّة معيّنة للقارئ، وهذا القارئ مهما كان شكله ونوعه وانتماؤه ومرجعيّته لا بدّ أن يستجيب أولاً لما تنطوي عليه النصوص من قدرة على الإبهار والتحدّي، بحيث تدفعه إلى التواصل مع طبقات النصّ بمرونة عالية تتصدّى للملل المحتمَل جرّاء التواتر السرديّ المنتظَم، بما يجعل ولادة الشغف السرديّ في مرحلة مبكّرة من مراحل القراءة أمراً عالي الأهميّة والخطورة لاستمراريّة القراءة وتدفّقها وتفاعلها مع المقروء.
يسهم المللُ القرائيّ في إعاقة التواصل مع النصّ السرديّ على مستوى بناء الخطاب مهما بلغت حمولاته المعرفيّة والإحاليّة والتناصيّة، ولا يشفع له لدى النسبة العالية من جمهور القرّاء النوعييّن المكرّسين أن تكون حمولته المعرفيّة غزيرة وكثيفة حين يفتقر للشغف السرديّ، فقراءة النصّ السرديّ على وجه الخصوص تقتضي بلوغ طبقة الشغف في الجولة القرائيّة الأولى من جولات القراءة، وكلّما افتقد القارئ هذا الشغف تراجعت قدرته على التواصل إذ يتسرّب دبيب الملل والضيق إلى عقل القراءة.
تؤدّي هذه النتيجة القرائيّة حتماً إلى الانسحاب والتباطؤ والتراجع والنعاس القرائيّ حتّى تحدث شروخ واضحة في جوهر العلاقة بينهما، ومن ثمّ يجد القارئ نفسه وقد انفصل عن فضاء النصّ وتسلّل هواء خانق إلى ذائقته، وانصرف عن متابعة طبقات المتن النصيّ ليدرك أنّ آليّات القراءة قد تعطّلت عنده تماماً، وعليه أن يغادر هذا الفضاء عندما لا يبقى له فيه متّسع للصبر على برودة السرد وافتقاره لما هو مطلوب من رطوبة، بوسعها أن تديم عمل أدوات الاستقبال على النحو الذي يجعل العلاقة جميلة ومفيدة ومغرية.
يتجلّى النصّ السرديّ عادة في ظلّ ديناميّة وديمومة وفعاليّة لا تتوقّف عند حدود عرض قيمة أساسيّة وجوهريّة في الحياة، مهما كانت هذه القيمة ذات قدرة اعتباريّة عالية لها مساس بحياة القرّاء ومستقبلهم، لأنّ وظيفة السرد هي وظيفة إمتاعيّة بالدرجة الأولى تأتي بعدها الوظائف الأخرى الموضوعاتيّة تباعاً، ولا يمكن تغليب أيّ وظيفة أخرى وتقديمها على وظيفة الشغف مهما كانت مهمة وخطيرة وفاعلة في المصير الإنسانيّ.
لا يقتصر معنى «الشغف السرديّ» على خصوصيّة الإمتاع والإدهاش الجماليّة فحسب، بل يتضمّن دلالات كثيرة أخرى ترسم صورة العلاقة بين ذائقة القارئ وحساسيّة المقروء النصيّ السرديّ، ومن غير الحضور القوي لهذه الصورة بين طرفَي العمليّة القرائيّة فإنّ القراءة تتحوّل إلى عمل إجرائيّ تقليديّ لا يتعدّى تزجية وقتٍ وإشغال فراغٍ فقط، ومن ثمّ لن تنتهي هذه القراءة إلى نتيجة بوسعها أن تندرج في سياق النتائج الجماليّة النوعيّة؛ القادرة على إعادة إنتاج النصّ السرديّ بروح قرائيّة تنقله من طبقة الغياب إلى طبقة الحضور، لأنّ قراءة النصّ السرديّ تحتاج دائماً إلى آليّات خاصّة ينبغي أن تحضر بكامل قوّتها الأدائيّة، لأجل أن تقوم بمهمّتها على الوجه الأكمل وتنتهي إلى النتائج المرجوّة على أفضل صورة.
ما لم ينجح النصّ السرديّ من بدايته النصيّة بإغواء قارئه وضخّة بشحنة مناسبة من الشغف السرديّ؛ فإنّه سيضع العصا مباشرة في دولاب القراءة ويعيق حركيّة التواصل القرائيّ بمنطقه الجماليّ الفنيّ الضروريّ، وحينها ستنمو الأشواك في طريق الحرير وتجعل الاستمراريّة صعبة على النحو الذي يعمل على إيقاف فاعليّة القراءة، ويجعل القارئ في فضاء لا يصلح للحركة فيضطرّ إلى المغادرة وترك النص يتيماً في حاضنته الباردة.
تقع مهمة ضخّ أكبر قدر من الشغف السرديّ في النصّ على الكاتب الموهوب العارف بما يجب أن يحمله نصّه من سيولة سرديّة عميقة، تتداخل مع الشروط الفنيّة والموضوعيّة والذاتيّة المتعدّدة الأخرى للوصول إلى سبيكة نصيّة شديدة التماسك والثراء، تكون قادرة على التعبير عن جوهر تجربتها داخل رؤية عارفة وحاوية وشاملة تعرف الطريق جيّداً، لتكون آليّة الشغف السرديّ وسيلتها الأبرز في عملية التوصيل بما يجعل القارئ في أعلى درجات الرضا القرائيّ المنتِج، وتسهم هذه الآليّة في تنوير البقع الأرجوانيّة في النص السرديّ وتثميرها لجعل القارئ جزءاً لا يتجزّأ منها.
تتكشّف آليّة الشغف السرديّ في هذا المضمار عن قدرة وطاقة وقابليّة استثنائيّة نحو جعل العلاقة بين طرفَي القراءة على أشدّها، من بداية الفعل القرائيّ في تلقّي عتبة العنوان وحتّى عتبة الخاتمة وقد بلغت أعلى درجات التنوير السرديّ.