تجليات المقدّس

ثقافة 2023/08/22
...

   علي العقباني

{كانت علاقة الإنسان بالمقدس منذ فجر التاريخ علاقة معقدة ومركبة لا يمكن إخضاعها لمحاكمة عقلية، لأن الإنسان الديني لا يبحث عن عقلنة هذه العلاقة، وهو ينجذب إلى المقدس ولا يعرف لماذا، كما أنه لا يريد أن يعرف}.


صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب وضمن سلسلة "آفاق ثقافية"، التي تصدرها الهيئة  كتاب (تجليات المقدّس في عبادات الشعوب القديمة)، تأليف: د. غسان بديع السيد، تصميم الغلاف: عبد العزيز محمد.

يحاول هذا الكتاب أن يبيّن، عبر نماذج مختلفة من العبادات القديمة، أن الخبرة الدينية للإنسان قديمة وأقدم من الديانات السماوية، وهي تتشابه في كثير من العناصر، بغض النظر عن مكان وجود هذا الإنسان في العالم. 

إن فصول هذا الكتاب تقدم نظرة شاملة عن علاقة الإنسان بالمقدس عبر التاريخ. تأتي الفكرة أولاً، ثم تأتي الطقوس والأساطير والرموز والقربان والأعياد، التي تثبّت هذه الفكرة في وعي الجماعة، ويمنحها الاستمرارية بقوة دفع لا 

حدود لها. 

ولهذا فإن العبادات القديمة لا تزال حاضرة بيننا حتى اليوم بأشكال مختلفة، وقد لا نعيها بسبب التعتيم الذي يطولها. 

ومن هنا تأتي الغاية من هذا الكتاب الذي يضع بين يديّ القارئ معلومات من مصادر عربية وأجنبية تبيّن أن الوعي البشري لم يتطور كثيراً في موضوع العلاقة مع المقدّس، ومنشأ هذا التقديس، الذي لم يستطع الإنسان القديم فهمه وعلاقة كل ذلك بالأسطورة، لا سيما اسطورة الخلق والقرابين والطوطم وغيرها.

عبر فصول هذا الكتاب الشيق سنجد أن حضور تلك العبادات القديمة والطقوس المرافقة لها، هو حضور قوي، لكننا قد لا نشعر بهذا الحضور، لأن قسماً منها انزاح عن أصله، كي يكون مقبولا في مجتمع يؤمن بحقيقة في مرحلة تاريخية لاحقة ألغت ما قبلها، وأصبح مقدساً لحصوله على الغطاء الجديد،  ذاك ما يعتقده الانسان غالباً في عصرنا.

لكننا اذا ما نظرنا قليلاً الى ما وصل الينا عبر العادات والتقاليد والمناسبات الاجتماعية، التي هي في الأصل على علاقة بالعبادات 

القديمة.

لا يزال الإله ايل وابنه الإله بعل وتموز وعشتار وأدونيس وغيرهم، يعيشون معنا عبر اللغة، التي نستخدمها بشكل يومي أو عبر الطقوس التي ترافق بعض الاحتفالات، التي لا تزال تشهدها بعض مناطق عالمنا الإسلامي، حينما نذهب لشراء التين فان الجميع يطلب التين البعل، الذي يرويه بعل إله المطر، لأنه ألذ من التين الذي يُسقى بالمياه الأرضية.

أما تموز فله الشهر السابع من السنة الميلادية، وحاضر في الأسماء التي نذكرها يومياً، ومن ذلك الاحتفال بالعام الجديد، الذي يحمل دلالة مختلفة، لا سيما أنه كان يبدأ في بداية شهر نيسان، أي فصل الربيع الذي تستعيد فيه الأرض حياتها بعد فصل الشتاء، ويرى الباحثون أن الاحتفال بالعام الجديد يرمز إلى تجديد الزمن البدائي، الزمن الطهور الذي كان موجوداً لحظة الخلق،  كما اننا إذا نظرنا إلى تاريخ الأعياد، التي تحتفل بها الديانات السماوية كلها مثل عيد النيروز، وعيد شم النسيم وعيد النور وعيدي الفصح والغفران والطقوس التي ترافق تلك الأعياد سنشعر أننا لم نغادر تلك المرحلة، وسنفاجأ بكم الرموز التي تملأ حياتنا، من دون أن ننتبه على دلالتها الأصلية أو مصدرها، ومن هنا يمكن قراءة عبارة فرويد "يعيش انسان ما قبل التاريخ داخل لاشعورنا دون أي تغيير".

كانت العبادات في بلاد الرافدين ومصر وبلاد فارس وغيرها من بقاع العالم مرتبطة بالظواهر الطبيعية، بسبب عدم القدرة على فهم آليتها، مثل إله المطر وإله الصاعقة وإله النار، وإله الجبل، وإله الموت وإله الخصوبة، كما قدّس الحيوانات والنبات وغيرها، والتي ارتبط معظمها بالأساطير، وهذا يشير الى أن المنطقة عرفت الآلهة المتعددة قبل أن تظهر فكرة الإله الواحد.

يتساءل الدكتور غسان السيد  في الفصل الثالث من هذا الكتاب المهم والمعنون"المقدس والتحريم" أسئلة جوهرية حول الرغبات والرقابة والأصول والمنع والمحظورات والتابوهات، والتأثير الاجتماعي والديني، وكيف ارتبطت هذه المحظورات بالمقدس، مستنداً في قراته إلى علماء النفس في المقام الأول الذين يشيرون إلى أن المحرم نشأ من الخوف، الخوف من كل شيء، من الطبيعة والكوارث والاعتقاد، بأن أرواحاً خفية تسكن في الشيء المحرم.

 وهو ما يرجعه الباحثون إلى المرحلة الأرواحية أو الإحيائية، التي تعد الطور الأول من تاريخ البشرية، والتي سبقت المرحلة الميتافيزيقية او الدينية والمرحلة الوضعية أو 

العلمية.

يمكن النظر إلى بعض النتائج المهمة في هذا الكتاب المهم من خلال قراءة المقدس والقربان والأسطورة والتحريم، على أن قسماً مهما مما نعتقده مقدساً وجاء مع الديانات السماوية، هو في الحقيقة موروث من معتقدات قديمة ومغرقة في القدم، صنعها الانسان وفق رؤيته للعالم 

والحياة.

التي يعيشها والطبيعة المحيطة، وهي تستند إلى ثلاثة عناصر رئيسة هي "المعتقد والطقس والأسطورة"، إضافة إلى تفصيلات مثل الرمز والقربان والأعياد والتحريم وعلاقة كله 

بالمقدس. 

كتاب (تجليات المقدّس في عبادات الشعوب القديمة)، تأليف: د. غسان بديع السيد، يقع في 296 صفحة من القطع المتوسط، صادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2023.