في مديح المراهقة

ثقافة 2023/08/23
...

أحمد عبد الحسين

إذا تحدثتُ عن شاعر ينشر نتاجه البكر، يصدر مجموعته الشعرية الأولى ويسميها "قصائد أخيرة"، فأنا أتحدث عن شاعر أدرك النهايات ونفضَ يديه منها وها هو منشغل بالطريق المؤدية إليها بعد أن عرف ما ينتظره. وليس ذلك نتاج يأس ولا انشغال بالموت كما قد يظنّ ناقد محبّ للكيليشيهات "وأغلب النقّاد هم من هذا الصنف". بل نتاج واقعية الحدس، واقعية لا تأتي بها الخبرات ولا التجارب، واقعية ممزوجة بالعاطفة المشبوبة التي تتخلق في فترة المراهقة وأوائل الصبا.
ففي ذروة التفتح الجسدي وانبثاق الغرائز، تتفتح أيضاً وبشكل سريّ أزاهيرُ الحكمة التي لا تحتاج إلى حياة طويلة من الرعاية لتنمو، بل تكفي ضربة واحدة من برق الحدس لتبدو.
المراهقُ أكثر حكمة من الشيوخ، لأنّ ما يأتي به الحسّ في أوج توهجه هو أصفى وأصدق وأدقّ مما تأتي به ركامات خبرة السنين، وحيث يتهدم الجسد تتهدم بوارق الكشوف أيضاً، وإذا حدث أنْ استمعتَ إلى شيخ يتكلّم وظننتَ أنّ عمره الطويل أورثه حكمة إضافية فأنت تساير الشائعة التي أدمنها الإنسان وكذب بها على نفسه واستمرأها، ومؤداها أنّ الحكمة تأتي في آخر الطريق لا في أوّله. وهذا عين الخطأ.
لا شيء يأتي مع انحطاط الجسد سوى تأكيد ما عرفناه أولاً في بادئ الأمر، وغاية تقصّينا كلّه أنْ نعود إلى اللقى التي عثرنا عليها في أوّل بلوغنا، فهناك تكمن النبوءات العظيمة التي طمرناها بالخبرات والتجارب وإعمال النظر والتدقيق والتحقيق.
تنبهتُ منذ فترة بعيدة إلى أن أكثر مَنْ أحبّهم من الشعراء قالوا كلمتهم منذ البداية. مع أوّل اكتشافهم لجسدهم اكتشفوا الحكمة المخبوءة فيه. لم ينتظروا أرذل العمر ليبصروا ذواتهم والعالمَ بعين الحقيقة.
"قصائد أخيرة" هو عنوان أوّل كتاب أصدره الشاعر الفلسطيني زكريا محمد الذي رحل عن عالمنا قبل أيام. أضاء له البرق عن حقيقة بيضاء قبل أن يبيضّ شعر رأسه بوقت طويل. عرف أنّ الأخير يأتي مبكراً، وأن النهاية في بداية البدايات، وأن ضربة القلب الأولى هي "ضربة المسمار الذي يخترق عنق الثور" بتعبير لوكليزيو "وأن التي ولدتنا في العالم قتلتنا أيضاً".
شبيهٌ هذا الشاعر بإليوت القائل: "في بدايتي نهايتي"،  وإذا أمعنتُ النظر في حياتي أنا، فسأجد نفسي هناك أيضاً في هذه الزمرة التي، لفرط واقعيتها، انتهتْ من حيث بدأتْ. أولى قصائدي التي نشرتُها كان عنوانها "الهواء الأخير"، كأني حين تنفستُ أوّل أنفاسي كنت مشدوداً إلى آخر هواء سأتنفسه على هذه الأرض.
مَنْ لم يلتقط خلاصة العالم في بواكيره لن تسعفه مقاديره في التقاطها آخر الشوط.
هناك قولٌ أوّل في الشعر هو ذاته القولُ الأخير، وفي كلّ ما نكتبه فنحن لا نفعل شيئاً سوى محاولة أن لا نقول شيئاً. يكتب الراحل زكريا محمد: "الشعر طريقة موفقة جداً لعدم قول أيّ شيء". لأنّ ما يريد قوله سبق له أن قاله في البداية ـ النهاية. وسائر كتبه التي أتتْ إنما هي مجرد شرح لتلك الصرخة التي أطلقها أوّل البلوغ. يكتب ساخراً تلك السخرية العميقة: " لديّ تسعُ مجموعات شعرية وأريد الوصول إلى الرقم عشرة. أريد أن أحصل على الرقمين صفر وواحد معاً، كي أضعهما أمامي مثل ماكينة خياطة أرفو بها الكون جاعلا منه قطعة واحدة".
الرقم 10 هو ما نريد أن نصل إليه، وهو مكوّن من رقمين: الواحد الذي بدأنا به، والرقم صفر الذي هو خبراتنا ومعارفنا كلها.
هذه الكتابة ليست عن اليأس ولا عن الأمل. هي كلام شيخ في مديح المراهقة.