أستراليانا

ثقافة 2023/08/23
...

جودت جالي

إن الأدب الأسترالي في جزء مهم منه، روائياً وقصصياً، خصوصاً الذي يجعل من الريف مسرحاً لأحداثه، يتميز بكون البيئة فيه شخصية من الشخصيات الرئيسية الفاعلة وهي مهيمنة حتى على تصميم أغلفة الكتب بصورها ورسومها المعبرة كما نرى في غلاف الرواية الثانية للكاتبة يمنى كساب لبنانية الأصل (أستراليانا) 2022، وهي تشكل أسلوبياً، كما في روايتها الأولى (بيت يوسف) 2019،  نسيجاً من النصوص المركزة القصيرة، موضوعاً وصياغةً بجُمَل تميل إلى الشعرية في مواضع كثيرة، ويمكننا عدها قصصاً مستقلة بعناوين مستقلة، والكتاب مكون من خمسة أجزاء. غير أن قصص يمنى كقصص آخرين من الأدباء الأستراليين لا يمكن لقارئ من قرائنا أن يندمج معها ويتفاعل، إن لم تكن لديه فكرة عن خصوصية البيئة الأسترالية.
قد لا تجذب  هذه القصص اهتمام البعض لأن الموضوع العام لا يهمه، ويترك الكتاب قبل أن يتمه فيرتكب خطأ لا يغتفر لأنه بمجموع قصصه يتشكل الكيان الروائي ويكتمل نصاً وموضوعاً، وإذا ما قرأها كلها يتبين له تكاملها من خلال الترابط فقصة لاحقة مثلاً تستكمل صورة شخصية من قصة سابقة أو تبرز ما كان ثانوياً غير بارز فيها، وقد لا تخضع لتسلسل زمني كما في قصة (السد) وقصة (الكنزة) ففي الأولى يكون جويل ميتاً بينما يذكره السارد في الثانية بوصفه حيا.  
إن العبارة التالية الخاصة بهذه الرواية تنطبق على تأكيدات النقاد بصيغ مختلفة على روايات وقصص أسترالية كثيرة (إن المحيط، مناخه، ميله الطبيعي للكارثة، قدرته على منح الأمل وانتزاعه متى شاء، هو شخصية أستراليانا الأكثر أهمية) ونضيف بأن هذه البيئة إن لم تكن تصوغ العلاقات البشرية فإنها في الأقل تؤثر فيها تأثيراً لا يخفى ولا ينكر. إن الشخصيات تواجه الحقول المضروبة بالجفاف حيناً وبالفيضان الكاسح حيناً آخر، وليس لها سوى الدعاء والأمل بأن تجد لها مكاناً للعيش بين الاثنين، الجفاف والفيضان.
إن قوة أستراليانا تكمن في كيفية سرد الراوي للقصة نفسها بطرق مختلفة وبنصوص متعددة، والمأساة لا يمكن نكرانها إذ، كما علق بعض النقاد الأستراليين، يتكشف بها زيف جاذبية الأسطورة الأسترالية والصورة المزوّقة في القصص التجارية والرومانسية، إذ تواجه الشخصيات المجهول والخوف والقلق والصعوبات المالية والعزلة حيث تجرنا يمنى لتفصل الأسطورة عن الحقيقة، كما في روايتها الأولى (بيت يوسف) التي تتناول موضوعة العوائل اللبنانية المهاجرة حيث تلعب الهوية والشكل دوراً في قصصها المترابطة.
يركز كل قسم من الأقسام الخمسة على جانب من حياة الريف (وبالمناسبة فإن الكثير من سكنة الريف الأستراليين ليسوا بالضرورة فلاحين بل هم مدينيون تضطرهم صعوبات العيش والسكن المالية في المدينة إلى البحث عن مسكن في الضواحي الريفية والبلدات). يستكشف قسم (البلدة) الوسائل التي تترابط فيها حيوات جماعة صغيرة، سلسلة من الصور القلمية تعرض في كل نص وجها مختلفاً تماماً من وجوه الحياة في البلدة، أما قسم (وجهي لا إسم له) فيلقي الضوء على صعوبات الحياة الريفية.. الجفاف، الوحدة، التقاليد، ولكن أيضاً، التغلب عليها من خلال الثبات والاعتماد على تضامن الجماعة، وعنوان القسم هو عنوان واحدة من أقصر القصص ومرتبة كالقصائد:
كانت تمسك بالمقود وكانت عازمة على أن يكون متأثراً بسياقتها
أسرعت. حثها هو.
قلبت السيارة واصطدما بشجرة.
لم تؤثر فيه كما لن يتأثر الآن أحد آخر.
نقرأ في قسم (الجانب الظلامي) الذي يضم قصة واحدة، هي أطول قصص الكتاب، تتناول النتائج الخطيرة لتجاهل الفرد لجماعته. في قسم (بيليجا) وهو اسم منطقة فيها حديقة وطنية ينصب اهتمام يمنى على الريف والاحترام الذي يستحقه حيث مجموعة من المراهقين المخيمين هناك يواجهون الحر الذي لا يلين وأنفسهم وأشباح الذين فُقدوا إلى الأبد في البرية، وأخيراً قسم (كابتن ثندربولت) الذي يكمل المختارات بتفحص الدور الذي تلعبه أسطورة لص الأدغال في فهم الأستراليين للجماعات المحلية.
نقول، مع التذكير بأن أشد البيئات تضرراً بالتغير المناخي هي الأرياف وساكنيها، أن الطقس عنصر مهم في رواية (أستراليانا) فهو ليس خلفية ما يجري من أحداث بل هو قوة الأحداث التي يصارعها الناس فيما يسعون إلى معرفة كيفية العيش معها والعيش مع ما هو لا مفر منه.
******
 خزان الماء
كان يعول على يوم يمر خفيفاً. مشهد بديل. لحظة، رجاء. دعونا نرتب المشهد. العمر سبعة وعشرون عاماً، قوي البنية، البعض همس قائلاً بأنه كان وسيماً أيضاً. له بدن كجذع شجرة، اعتاد على رفع الأشياء الثقيلة. قام بجز صوف الغنم، وحفر حفراً في أرض صلبة، ورفع بالات لتحميلها في شاحنات كبيرة. يعرف الزبائن بأسمائهم الأولى، ويسألهم عن أحوال أطفالهم وأهلهم، وقد درّب واحداً من الفرق المحلية.
كان يساعد السيدة جونز وهي متقاعدة تعيش على مبعدة ثلاثين كيلومتراً من البلدة حين نادته :” جاك، أحتاج مساعدتك لدقيقة”. كانت هادئة، غير متعجلة. لا بد أنها نادته لأن أحداً يحتاج المساعدة بأحد الأجهزة. لا يمكن أن تكون الرافعة هي الجهاز المقصود، فكل رجل وحتى كلبه يستطيع سياقة الرافعة حول المكان هنا. قادته عبر السقيفة وخارجاً إلى خلف البناء. كانا وحيدين. قالت :” توجد جثة في الخزان”. ردد :” جثة في الخزان”. سمع في حياته عن جثث كثيرة في خزانات المياه. زميله في المدرسة، عمره سبعة عشر عاماً وأمامه حياة بكاملها. الزوجان اللذان قادا سيارتهما وأسقطاها في خزان بتهور. طفل بعمر السنتين لاحظ جار أنه مفقود. خزانات كثيرة وماء قليل جداً في أغلبها. إن كان يوجد ما يميز موسم الجفاف فهو تلك الغرقات، ناهيك عن زيادة العنف المنزلي، والرمي بالرصاص، والانتحار. لم يسألها أي خزان. كان يوجد هناك واحد لا يزيد عمقه عن عمق بركة. أخذ الشاحنة وانطلق بها وهو يقول لها بأن تتصل بثلاثة أصفار. تجمع مسبقاً حشد بجوار السقيفة. حاول أن يزيحهم من تفكيره ولكنه كان يمكنه رؤيتهم بمرآة السيارة للرؤية الخلفية. ما أن وصلت الشرطة تم تفريق الحشد. فكر فيما كان يتجه نحو الخزان باليوم الذي حُفر فيه ذلك الخزان. تطلب العمل يوماً كاملاً لجعله من العمق بحيث يكفي لجمع ما يأتي من الماء من التلال الجنوبية. لم يكن بقعة سيئة للتبرد في الصيف إن صادف أنك كنت داخل ذلك الشيء، ولكن الغريق لم يكن فيه للسباحة بما أن كيلي ذكرت الأفعى التي رأتها. من السهولة تجاهل رؤية أفعى واحدة في اليوم ولكن ليس أربعاً. أحسب أني سأفوت السباحة، شكراً لا أريدها. لكن باستثناء اليوم لأن جويل هناك على وجهه، بنطاله الجينز ازداد لونه قتامة بالماء. لقد رأى هو جويل قبلاً ذلك الصباح وبدا طبيعياً، متفائلاً. تساءل جاك وهو يترجل من الشاحنة إن كان الأمر حادثاً. تصور بضعة سيناريوهات ولكن كلاً منها ينتهي بجويل يسير إلى داخل الخزان بملء إرادته. لقد فقد جويل الوصاية على طفله ولكن هذا كان في العام الماضي، وحتى هو نفسه أقر بأنه نتيجة خطأه، “ يمكنك القول بأني كنت أحمقا”. كان سيختار جويل اعتيادياً كلمات أكثر وقاحة ولكن كان يوجد أطفال في المكان وقتها، والآن هو في الخزان. راقب جويل – الميت حديثاً- وتساءل كم من الظلام يدخل عقل الإنسان، كيف يمكن أن يعذب القلب. تذكر مساء في الصيف الماضي عندما ذهبا للشرب. لم يتحدث جويل عن همومه حتى تداعى إلى الأرض، والنادل، وهو صاحبهما رفض أن يعطيه المزيد من الشراب. بدأ جويل يبكي على الأرضية ولم يعرف أي منهما ماذا يفعل له. استطاعا رفعه ووضعه في كرسي، ولكن ماذا عن دموعه؟ تظاهرا بأنهما لا يستطيعان رؤيته، وأن جويل مجرد فراغ عند أقدامهما.
جويل على وجهه في الماء، جويل يبكي، جويل يقر بأنه أحمق. كان الوقت هو وسط موسم الجفاف. الخزانات في المستويات الأدنى المسجلة في كل البلد. لم يستطع جاك أن يفكر بأن الماء غير منخفض بما يكفي. لو لم يكن هناك ماء على الإطلاق لكان لصاحبه فرص في أن يظل حيا.
******
بانتظار موت الجدة
كان عمر إدنا، أو الجدة كما تسمى غالباً، ثماني وتسعين سنة، وعائلتها تنتظر موتها. وقع مؤخراً حادثان أثارا ذعرهم، إصابة في الورك وأزمة قلبية، ولكن الجدة تجاوزتهما عبر إقامات طويلة في المستشفى، وقبلهما حدث ما لم يكونوا يتصورون أنها تفعله، فقد تعرضت للكثير من الخسارات التي لم يكن لها إلا معنى واحد هو أن الجدة مشرفة على النهاية، إذ فقدت قدرتها على استخدام يدها اليسرى، ولم تستطع التحرك في البيت إلا بمساعدة عصا أو هيكل بعجلات، كان نظرها ضعيفاً حتى مع العوينات، ولا تستطيع سماعهم إلا بالصياح. أحبوا أن يركنوها تحت الشمس على كرسي بذراعين وبطانية فوق ركبتيها. لم يتحدثوا إليها ولم تحاول هي التحدث اليهم. تعقبت عيناها جزيئات لا يستطيعون رؤيتها فيما قال الزائرون أن الجدة محظوظة لأنها تمتلكهما :” شيء جيد جداً أنها تستطيع أن ترى أيامها الأخيرة في البيت”. أيامها الأخيرة. كانوا يحصون أيامها الأخيرة لسنوات. إنهارت، انهارت ثم ثابرت كالمد. لقد دُفنت نساء أخريات أصغر منها خلال هذه المدة ولا زالت هي مستمرة على النهوض كل يوم. لقد مرت خمس سنين على ما ظنوه التنظيف النهائي، وما أسموه التخطيط المستقبلي قائلين “ أنهم بهذا لن يكون أمامهم عمل كثير عندما تموت”، فوزعوا أثاثها للصدقات، ورموا ملابسها في المخزن، وأعادوا تدوير الصور القديمة والرسائل، أمسكت بهم متلبسين بتنظيفهم وقد وعدوها بأنهم سيحتفظون ببعض التذكارات، ولكنهم لم يفعلوا أبدا. لو أنهم استسلموا لرغباتها لكان البيت متخماً بالمقتنيات التي لم تعد تحتاج إلى أن تكون بينها. شيء جيد جداً أنها تستطيع رؤية أيامها الأخيرة في البيت. عندما سمعوا خبر الفيضانات في الأخدود في ملكيتها جاء أفراد العائلة كلهم إلى المكان وراقبوا من التلة المجاورة بيت الجدة يطفو مع مياه الفيضان، وصدمهم أن الأمر قد حدث أخيراً، وأن اليوم قد حل أخيراً. ثم تذكروا أن اليوم هو الأربعاء، وفي الأربعاء خرجت مع مجموعتها في نزهة. أنظر إلى الوقت في ساعتك. لا يمكن أن تكون قد عادت منذ ساعة أو نحو ذلك. في هذه الحالة يكون نوح قد طفا بسفينته وستكون الجدة في الأنحاء لتقابله حياً هو وحيواناته.