الفلسفة.. تفكير في التفكير

ثقافة 2023/08/23
...

 حازم رعد

- لعله من الواضح أن الفارق الجوهري بين الإنسان وسائر المخلوقات هو توفر الإمكانية عند الأول على التفكير بينما سائر الكائنات نامية وحاسة وتعمل بغرائزها بالمطلق، وبحسب تعبير أهل المنطق أن العقل هو الفصل المقوم للإنسان عن باقي الأنواع التي يشترك معها في الجنس. ومن الواضح جداً أنه لا يقتصر فعل التفكير على تلك العمليّة التي تشبه التأمل واستبطان الأشياء بصورة سطحيّة لأن ذلك ينتج أفكاراً هامشيَّة لا تغطي الواقع ولا تبصر الطريق أمام السالك وتخلق أطراً نظريَّة ساذجة.

 بل التفكير المطلوب عمليّة حفر معرفي بتعبير فوكو في طبقات النص “سواء كان ذلك النص إنساناً او نصوصاً معرفيّة وأفكاراً أو أشياءً وأحداثاً” فإنَّ هذه كلها نصوص وتتوفر على تفصيلات ومعلومات ويمكن إثراء المجال العام بالأفكار التي تكتنزها ولكنّها متخفية وغير
مستنطقة.
إنَّ عملية التفكير التي نقصدها هنا في حديثنا الآن هي مجموعة “استراتيجيات فلسفيَّة” للتحليل الصارم للأشياء بتقسيمها وتجزئتها وفحص عناصرها بدقة عالية، وثمَّ قراءتها بتأنٍ وعمق كبيرين، ومحاولة أبطال النتائج الظاهرة من خلال طرح الشكوك على الحدث والفكرة لا بغرض الإساءة أو أنه غير مهم وانما تكون شكوكاً منهجيَّة غايتها الوصول الى حقيقة الشيء وفهمه وادراك جوهره الحقيقي بدل التعلّق بمعطيات بسيطة لا تغني
ولا تسمن.
ويمكن أن يأخذ التفكير معنى كونه مراجعة نقديَّة مستمرة لكل ما يرد على الإنسان من أفكار ويحصل بين ظهرانيه من أحداث ووقائع، وهذه المراجعة هي بمعنى من المعاني اعادة طرح السؤال على الاجابات الاولى والثانية وهكذا دواليك لأجل الحصول على يقين من صدق الاجابات والمدّعى والنتائج الظاهرة.
وإذن فإنَّ التفكير ليس تلك الطريقة التلقائيّة للتعبير عمّا يجول في الخاطر فقط في حالته العفويّة، وليس ايضاً تلك العملية التأمليّة البسيطة التي يتعرّض بها الانسان للأشياء، وانما هو “استراتيجيا فلسفيّة” يتمّ من خلالها التعرّض للعالم بأشيائه وأشخاصه ومحاولة الكشف عنها وتحقيق التجديد فيها وقراءتها بالطريقة التي تنسجم مع الراهن المعاصر لتقيد في وضعيّة الإنسان بوجوده الحاضر المتأثر بمشكلاته وصعوباته وأحداثه، وهذا ما نصطلح عليه الفلسفة روح عصرها ونتاج الثقافة والاجتماع الذي تسود وتقطن فيه.
إنَّ الفلسفة لا ترى ضرورةً على الانسان ان يكون بحجم افلاطون أو ماركس او ابن رشد ومن هو على شاكلتهم، بقدر ما تريد من الإنسان ان يفكر “فقط يفكر” ويُعْمِلُ عقله في الأشياء ويحكم هذه القوة في الأحداث والأشياء والأفكار، بحيث اذا عرضت عليه فكرة ما مهما كان مصدرها، فلا يكون غبيّاً بإفراط ويسلّم بها تسليماً مطلقاً من قبل أن يفحصها ويحللها ثم يحكم عليها بالرفض او القبول او تعليق الحكم.
فضلاً عن أن الاستمرار على التفكير ومزاولة نقاش الافكار والاحداث تأمليّاً ونقديّاً هي ما يوسّع دائرة الفهم عند الانسان ويصعّد من نمو عقله، إذ الأخير ينمو وينضج وتتسع من فسحاته بديمومة مزاولة التفكير ومطارحة الأفكار مع بعضها ونقاشها سواء بشكل فردي أو جماعي، وأن الأخير أكثر إفادة لأنه يثرى من الآراء والعقول الاخرى التي تمده بما هو جديد او قديم يتم اخضاعه تحت مشارط النظر والتفكير.
على ذلك يقع التفكير في سياق الاولويات في مساق الممارسة الانسانية، اذ به يعرف ويحد ومن خلاله يمهد مقدمات التصرف ويعد الارضية النظرية لكل فعل وتوقع مستقبلي ولولا التفكير لأصبحت وامست سلوكيات الإنسان ركاماً من الفوضى والعشوائية التي يرتطم بعضها ببعض ومع الاخر، وصارت حياة الناس عبثاً وخلواً لا يطاق، اذ حياة غير منظمة بالأفكار هي حياة خالية من المعنى وسارحة في فضاء هلامي من الهامش والعشوائية والضبابية؛ لذا فإنَّ أولى الخطوات التي من الواجب ان يقوم بها الانسان هو ان يفكر ويقطع اجازة الاشتغال بعقله واستئجاره لغيره ليفكر بدلاً عنه، فإنسانيّة الانسان رهينة عقله وممارسته القائمة على التفكير الواعي والناضج.
ولكن المفارقة تكمن في ان اغلب الناس يفضلون عدم التفكير ظناً منهم ان في ذلك راحة من جهد وتعب اعمال العقل، ولذا تراهم يقعون في اخطاء شائعة مثيل التسليم المطلق للأفكار الوافدة وافكار السلطة “المهيمنة” من دون عناء فحصها وتحليلها، وكذلك نتيجة عدم التفكير يقعون في فخ التعميم واطلاق أحكام القيمة على الاحداث والاشخاص والافكار وهذا وحده يشكل عائقاً معرفياً أمام الانسان ويوقعه في شراك الجهل او الوقوف على حقيقة الاشياء، ومن ثمَّ يكون شكل الممارسة اما خاطئاً واما مشوّهاً لأنه لم يعتمد التفكير والنقد واستخدام سائر ادوات العقل النظرية التي يحسن معها التصرف والعمل.
هذا الذي اسميه العجز والكسل الفكريين، مآلاتهما خطيرة على الإنسان الفرد والمجتمع في آن واحد، اذ نتيجة ذلك تسيطر القوى المؤدلجة على البلدان وتحكم قبضتها على المقدرات وعلى الموارد البشرية وايضاً بسبب ذلك تطلق الاحكام القيمية الخاطئة مما قد يؤدي الى الاضرار بالناس وبممتلكاتهم وارواحهم، وايضاً نتيجة عدم التفكير أو الطريقة الخاطئة في التفكير يرد البعض موارد الظلم والتعسف واختزال الاخر وقمعه، وما الى ذلك من ممارسات هي بالإنسان نتيجة حتمية لمقدمة واضحة اما عدم التفكير او الخطأ في طريقة
التفكير.