كوميديا سوداء في سيرة فوتوغرافي

ثقافة 2023/08/24
...

 باقر صاحب 

يفاجئنا الروائي العراقي أزهر جرجيس في روايته «حجر السعادة» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2023، بمحاولة اغتيال فوتوغرافي مغمور، لكنَّ المحاولة لم تتمْ، كما يهجس القارئ، بدليل أن الراوي، يظهر أن كل شيء على ما يرام بعد طلوع النهار، فهل هو كابوسٌ له خلفيّات معينة، في سيرة حياة الراوي المشارك والشخصية الرئيسة في الرواية «كمال»، حيث يبدو لمن يكمل قراءتها بأنها سيرة حياة فوتوغرافي منذ طفولته ولغاية شيخوخته، وفيها تسليط أضواء على الحياة العراقيّة خلال سني عمر بطل الرواية منذ خمسينيات القرن الماضي ولغاية أواخر العقد الثاني من قرننا الحالي.

قسّم جرجيس روايته إلى فصولٍ قصيرة، ولذلك بلغ عددها 32 فصلاً، كلُّ فصلٍ له عنوان، مستمدٌّ من الحدث الرئيس فيه. نعتقد أنَّ قِصَر الفصول في رواية يبلغ عدد صفحاتها 314 من القطع المتوسط، يمنح القارئ تشويقاً، لكي يعرف ما يحدث في الفصل التالي، زدْ على أنّها استراحةٌ قصيرةٌ للقارئ، كي يتأمّل ما حدث في كلّ فصل، وخلق ارتباطاتٍ في مسلسل الأحداث بحسب الرؤية القرائيَّة لكلِّ قارئ. 

يعود كمال عبر «الفلاش باك» إلى طفولته في حارة الميّاسة في مدينة الموصل، عندما كان عمره ثمانية أعوام، يروي معاناته، بين أب ٍقاسٍ وعاطلٍ وخمّار، وزوجة أبٍ لا تعامله بالحسنى كما تعامل أخاه الصغير، فهو ابنها، بينما هو وأخته جانيت من زوجة أبيهما السابقة، أي والدتهما. جانيت تعمل على حياكة (ليف) الحمّام وصنع مكانس القش، وتذهب الزوجة ومعها كمال الذي يحمل البضاعة، فتبيعها لتشتري بها متطلبات البيت، لكنها تستكثر على كمال شراء قطعة (زلابية)، فيضطر إلى سرقتها، لكن الزوجة الماكرة تفضح ذلك الأمر عند أبيه، الذي يعذّبه بقسوةٍ شديدة، ويحرّم عليه دخول البيت، فيضطرّ إلى المضي بعيداً، إلى ما يسمّى خرافةً (بستان الجن). ويتكرَّر هروبه من البيت، المرة الثانية، يفلح في الفرار إلى بغداد، عندما اتّهم بإغراق أخيه في النهر.

قبل هروبه النهائي إلى بغداد، لجأ إلى البستان، فعثر بين العشب، حيث جلس، على حجرٍ أزرق لامع مثقوب، وهنا تأمّل فيه أن يكون حجر نجاته من كل ما هو فيه، وفي سياق الأحداث أفاده الحجر، في حالتين، استعادة النطق، وإزالة التأتاة نتيجة إحدى حالات التعنيف القاسية من قبل أبيه، والحالة الثانية استعادة الهدوء الداخلي، بعد حالات التوتر التي لا تُعدُّ ولا تحصى، من تلك التي مرّ بها كمال في حياته، تتمُّ الحالتان، بعد أن يلتقم فم كمال الحجر من جميع جوانبه، وبعد شعوره بزوال الحالة الشاذّة، خَلُص إلى أنَّ هذا الحجر، سيعيد إليه السعادة الداخلية، ومن هنا سمَّى جرجيس روايته «حجر السعادة»، ولذا علّقه كمال في رقبته كتعويذة. ومن هنا نستنتج استثمار جرجيس في روايته للميثولوجيا، وكأنّ المصائب والتعاسات التي مرّ فيها بطل الرواية، لا تُزاح إلّا بمعجزات. عشق كمال للتصوير، هو الذي جعل حياته تستمرّ في بغداد، حين يتعرّف على المصوّر خليل، صاحب استوديو في شارع الرشيد وسط بغداد، وقبلها كان- يعيش حياة تسكعٍ ينخر جسده الجوع، ممتهناً أعمالاً مختلفة، بين لصوصيّةٍ أًرغم عليها مقابل إيوائه وإطعامه من قبل رجل يدّعي التديّن، كما عمل عتّالاً وصبّاغ أحذية. يجد كمال نفسه في مستشفى بعد أن طعنه متشرّدٌ مجنون، في خاصرته، أجريت له عملية رفع كلية، وبما أنّه بلا مأوى، يؤويه العم خليل في بيته، ومن ثمّ في شقة أعلى الاستوديو، وأهدى له كاميرا، فانطلق يمارس التصوير، وهو سعيدٌ بتطورات حياته الجديدة، كما أصبح له صديقٌ في مثل سنّه يعمل في مطبعة، بعد أن يموت العم خليل تأثراً بوفاة زوجته، التي يُحب، ترك وصيةً له عند صديقه فوزي المطبعجي، مالك مطبعة السلام، والد حبيبته نادية، الذي رفض هو وزوجته، اقتران ابنتهما به، فيزوجانها لابن عمها رجل الأعمال المقيم بين بغداد ولندن. الوصية وثيقةٌ دامغةٌ على أنّ كمال أصبح المالك الشرعي للاستوديو. فأصبحتْ له ملكية خاصة به. 

هذه هي أيام كمال، تمضي بين مدٍّ وجزر، بين أيام سعادةٍ، وأيام بؤس، وكذلك نحن العراقيين عامة، والبشريّة جمعاء، هي رواية إنسانيّة، تمثلنا، حين يغدو العيش بكرامة، الهدف الرئيس، نتيجةً لكلّ ما قد يقاسيه الناس، وليس كمال وحده، من ذل. 

باشتعال لهيب الحرب العراقية – الإيرانية، يكون كمال قد بلغ سن السادسة والعشرين، يروي كمال أجواء الحرب حينذاك، وللمفارقة أنّه شكر المشرّد حيث كان السبب، في رفع إحدى كليتيه وإعفائه من الخدمة العسكرية. 

كما يروي كمال بسخريّةٍ سوداء ما جرى في أثناء الاحتلال الاميركي للعراق 2003، كان يتابع الأخبار وهو رابضٌ في البيت، الذي انتقل إليه في منتصف التسعينيات، بعد الفوضى التي سادت شارع الرشيد آنذاك، إذ أصبح غير قابلٍ للسكن، البيت يقع في محلةٍ شعبيةٍ في أطراف بغداد، لكنه شاهد صورةً مصغرةً عن أحداث النهب والسلب في ذلك العام، بطلها جاره «طزّون»، وكان في العهد البائد لصاً وقاتلاً. إذ جاء بسيارة حمل فيها مواد منهوبة، قبض عليها في اليوم التالي مبلغاً كبيراً، وحدث أن اختفى «طزّون» في اليوم التالي، وبعد فترة من الزمن، ظهر بمظهرٍ مختلفٍ واسمٍ مختلف، ظهر على أنه شخصيةٌ متنفذةٌ له حراسه الشخصيون. 

يريد الراوي العليم القول من خلال الحوادث التي يمرّ بها كلَّ يومٍ في بغداد، بأنّ الاستثناء في حياتنا العراقية أصبح قاعدة، فيصف بغداد في شتاء 2018 بأنها «مدينة الحواجز الأمنيَّة والاختناقات المروريَّة. ستشعر وأنت تقود وسط الزحام بأنّك قادمٌ من الصين على ظهر ناقةٍ عرجاء»: الرواية ص241. كما حدث أن صدمت سيارة حديثة آخر موديل، سيارته البيجو القديمة، فحدث عراكٌ بينه وبين شابٍ طويلٍ مفتول العضلات، يضع مسدساً في حزامه، فضّهما بعض الحاضرين، لكن الشاب هدّد كمال بأنه سيقتله حتماً في يومٍ من الأيام.

أحسَّ كمال، بأنَّ العد التنازلي لحياته قد بدأ، وهذا يعطينا إحساساً بأنّ نهاية أحداث الرواية باتت وشيكة، اعتباراً من الفصل السابع والعشرين، فالأمور تسير من سيّئٍ إلى أسوأ، كأنما هناك أيدٍ خفيّة، تحيك المكائد له. رغم الانحدار السيئ، كان كمال يلتقط كلَّ ما هو إيجابي في الحياة العراقيّة ليعزّزَ الأمل بالنفوس: «مرَّ أصحاب الستر الخضراء. كانوا يزيحون الأكياس والحجارة عن حواشي الطريق وممرات الصرف الصحي، فتناولتُ الكاميرا وعمدتُ إلى توثيق ما يصنعون»: ص 203.

ظلّ كمال يتأمل متسائلاً: لماذا عليه أن يموت قتيلاً، وليس موتاً طبيعياً، مندهشاً بأنَّ الموت الطبيعي على السرير أصبح نادراً. ولكنَّ محاولة اغتياله تمّتْ بأربع رصاصات، بعد أن كانَت في مطلع الرواية طيفاً أسود. ظنَّ القاتل الماجور بأنه مات، ولكنَّ معجزةً حدثت بنقله سريعاً بسيارة إسعاف إلى المستشفى ومعه نادية، التي غفر لها خذلانها له، فظلَّت تلازمه، وحين تعافى تدريجياً، أخرجته من المستشفى إلى متحف السلام، الذي صودرَ من أبيها أيام العهد المباد، وأعادته بإرادتها الحديديّة وكتاباتها باِسمٍ مستعار. قرَّر كمال بعد معافاته تدريجياً الانتقام، وكانت نادية تثنيه عن ذلك إلاّ أنَّهُ أصرَّ، ولكنّه بعد ليلةٍ حميميَّةٍ معها، ظلَّ نائماً وحين استيقظ، بدأ يضحك، وحين سألته، قال لها: «- طلع النهار ولم انتقم!»: ص316. في الدلالة على أنَّ حبَّ الحياة الجميلة أسمى وأغلى وأجمل من سلسلةِ الانتقامات التي لن تنتهي.