انطلاق محمد علي.. فنانة الطفولة

ثقافة 2023/08/26
...

 إحسان العسكري 


لكل فنٍ مفهومه المستقل ورؤيته الخاصة، ولكل رؤية قراءتها التي تحللها وتُخرج منها مكامن التفكير الذوقي والعاطفي والفني وتدرس التأثير واستمراريته، وغالباً ما تجد الفنون قرّاءً وعشّاقا ومناهجَ ودراساتٍ علميةً تتبنى تنمية وتحليل الأفكار، وتقيّم الإبداع. إلا ما تم استهداف الطفولة به من فن أو كتابة، هنا توضع كل المفاهيم على جنب وتُركن جميع المعايير، ويبرز الأثر لوحده شاخصاً أمام حيرة تغشى الكبار، وهم يقفون عاجزين عن تفسير تأثر الطفل بما رآه. فحين الحديث عن الأطفال والسعي لتنمية قدراتهم، يبرز الفن التشكيلي كأداة أساسية ومحورية يبدأ عبرها كل شيء، فلا الكاتب، ولا المصور، أو الممثل، ولا حتى التكنلوجيا منفردة باستطاعتهم التأثير على ذائقة الطفل وسحبها باتجاه العمل، من دون الاعتماد بنسبة كبيرة على الفن التشكيلي كأداة جذب لنظر الطفل. 

وعلى الرغم من التزام الفنانة انطلاق محمد علي بترجمة كتابة محددة الى رسم، إلا إن قصة ابداعها في الرسم للطفل كبيرة، فلا شيء أتى بمحض الصدفة وكل ما رُسمَ كان للطفولة والسعادة كتعبير عن امتنان الإنسانية لوجود الطفولة فيها. 

حكايات رافقتنا عبر مجلات وقصص مصورة ومشاهد متلفزة جميعها اعتمدت بالشكل الأساسي على الفن التشكيلي  عبر رواد هذا الفن الرائع، ومنهم صاحبة السبق الفنانة العراقية الكبيرة انطلاق محمد علي الرائدة في فن الرسم للأطفال، فبالأقلام الملونة وعلى الورق ذهبت بعيداً باستدراج خيال الطفولة، عبر لوحاتها التي تتسم بالخطوط الدقيقة والشكل الإخراجي المتزن والأفكار المتميزة وحسن استخدام الألوان والإبداع في تنظيمها، متخذةً من خبرتها الصحفية والفنية سبيلاً لتطوير مفهومٍ جديد فيما يتعلق بالرسم للأطفال. 

الفنانة تدرك تماماً أن للرسم السبق في تطوير مهارات الطفل، وشد انتباهه فأبدعت في هذا المجال، متخذةً من النمطية الأصولية الراكزة والالتزام بموضوع النص منطلقاً لنجاحاتها، فابتدأت من البيت ولم تنته عند الحدائق ولم تتخط الخطاب التخييلي للطفل، فرسمت حوار الحيوانات وصورت أحداثا يعيشها الطفل في خياله، مستخدمة الألوان المائية على ورق في اللوحات الأكثر اكتظاظاً بالأحداث والتفاصيل، كلوحاتها التي تصور الطبيعة والمباني والرموز الخيالية. ولو ركزنا قليلاً في علاقة الطفولة بالفن التشكيلي لأدركنا أن هذه العلاقة تقع في صميم شخصية الطفل اذا يستطيع  أن يبدع باستعمال  ادوات الرسم  قدر استطاعته التفاعل مع ما يراه أمامه  فالتي نعتبرها “خربشات” على ورق أو على الجدران،  قد  تكون قطعاً فنيّة فيها من العمق ما يستحق التأمل.

 وباعتقادي كانت انطلاق موضوع البحث مدركة لأهمية هذه الجزئية فاستثمرتها عبر اعمال توخت فيها خيال الطفل وطريقة تعامله مع اللون والأداة، فأبدعت وليس غريباً أن تتألق في مسيرتها فقد آمنت بعملها في الفن الصحفي متكئةً على حبها للطفولة، وبرؤية الفنانة الاجتماعية المعتمدة على النسق المحلي في تنمية الأفكار جمعت بين الطفولة والكهولة في مسألة الجد والجدة وعلاقتهما بالطفل، أي أنها لم تترك فراغاً، يمكن للطفل أن يشعر به، فهي تجيد ملء المساحات الخيالية، كإجادتها لجمع الألوان بحرفية عالية وخبرتها في التعامل مع ذائقة الطفل. 

 نحن هنا نتحدث عن فنانة تصويرية متخصصة في مجال أدب الطفل وثقافته، لأكثر من 42 عاماً، أبدعت في مجالها، فطُبعت أعمالها في عشرات المجلات والكتب في العراق والدول العربية والعالم. أجادت استخدام الألوان واختيارها، حتى أن بعض لوحاتها تصلح لأن تعبر هوية العمل، مما يؤكد  إمكانياتها الكبيرة في الرسم والتشكيل، فكونك فنانا شيءٌ وموظفا في الفن شيءٌ آخر، لأنك ستحتاج للأفكار أكثر من حاجتك لتبنّيها، وعليك أن تترجم خيال الكاتب فتأخذ من النص لوحتك،  وأن تُبدع في كل عمل تنتجه مهما كانت موضوعة ومناسبة هذا العمل. 

برأيي هذه هي قصة انطلاق محمد علي، التي تميزت بكونها مستمرة في العطاء الفني للطفولة أنتجت مئات الأعمال، والذي يتابع بعضها يلمس الروح البغدادية في المختفية تحت طيات الألوان، وكأنها تريد أن تبعث ببعض رسائلها عبر بغداديات موجهة للطفل، لذا فقد عملت على استدامة هذا المفهوم بتقنية فريدة من نوعها لتكون في الصدارة وحينما نتحرك للبحث عن متبنياتها دائماً فهي من الشخصيات المعتمدة في تقييم هكذا أعمال لأنها عضوة في أربع لجان تحكيم  للجوائز. ولها العديد من المشاركات الدولية والمبادرات الشخصية والمشتركة وتقديم و إدارة الورش.

اسست “جائـزة أوكة لرسوم كتاب الطفل” أطلقت نسختها الاولى عام 2021، وأطلقت نسختها الثانية هذا العام 2023 وما زالت هذه الفنانة تمثل قصة حقيقية خالدة، لأجمل بادرة إنسانية تبناها الفن التشكيلي فيما يخص الطفولة.