المملكة الفاشلة

ثقافة 2023/08/26
...

 ترجمة: نجاح الجبيلي 


ملاحظة المترجم: نُشِرتْ هذه القصة لهاروكي موروكامي في ركن "قصص الومضة" بمجلة نيويوركر مع أن طولها حوالي 1200 كلمة ولا أدري المقاييس التي تحددها المجلة لهذا الجنس من القصص، كما أنّ النص لا ينطبق عليه ثوابت القصة الومضة فهي لا تشبهها بسبب طولها ونهايتها المفتوحة ولا تحمل أي مفاجآت أو صفات الومض والسرعة. لذا فهي تحمل ميزات القصة القصيرة.

كان هناك نهرٌ جميل صغير يجري تماماً خلف المملكة الفاشلة. كان جدولاً صافياً محبوباً ويعيش فيه عددٌ من الأسماك. العشب ينمو أيضاً ويقتات السمك عليه. بالطبع، لم يكن السمك مهتماً إن كانت المملكة قد فشلت أم لا. وفيما إذا كانت مملكة أو جمهورية فلا فرق لديه. ذلك أن الأسماك لا تصوّت أو تدفع الضرائب. وكانت تفكر بأنه لا فرق بالنسبة لها. غسلتُ قدمي في الجدول. وقد احمرتا بسبب تشبعهما بالماء الجليدي البارد. ومن الجدول يمكنك أن ترى الحيطان وبرج القلعة في المملكة الفاشلة. ما زال العَلَم ذو الألوان المتعددة يتراءى من البرج خافقًا في الريح. كل شخص يمر بضفتي النهر سيرى العَلَم ويقول:" انظروا. إنه عَلَم المملكة الفاشلة".

أنا و"كيو" صديقان، أو يجب أن أقول إننا كنا صديقين في الكلية. لقد مرّت أكثر من عشر سنوات منذ أن فعلنا نحن الاثنين كل ما يفعله الأصدقاء. وهذا هو السبب أني أستعمل صيغة الماضي. على أية حال، كنا صديقين. 

 وكلما أحاولُ أن أخبر أي شخص عن "كيو"- لكي أصفه كشخص- أشعر بالفشل تماماً. فلم أكن أجيد توضيح أي شيء، لكن، حتى لو أضعُ ذلك في الاعتبار، فإنّه من التحدّي أن أحاول التوضيح لكل شخص عن "كيو". وحين أحاول يغلبني الشعور باليأس. 

دعني أشرح المسألة ببساطة حسب ما أستطيع. 

كنا أنا و"كيو" بعمر متقارب. لكنه أجمل مني بمئة وسبعين مرّة. فهو يمتلك شخصية لطيفة أيضاً. فلا يشعر بالأنفة والغرور ولو أنّ أحداً سبب له مشكلة بالصدفة فإنه لا يشعر بالغضب. إذ يستدرك قائلا " أوه، حسناً لقد فعلت الأمر نفسه" لكني في الواقع لم أسمع عنه أنه أتى بعملٍ سيِّئ تجاه أي شخص. 

كان ذا تنشئة جيدة أيضأ، فأبوه كان طبيباً له عيادة في جزيرة "شيكوكو" وهذا يعني أن "كيو" لا يحتاج إلى مصرف جيب. ولا اٌصد هنا بأنه كان مبذراً. فهو متأنق ذكي ورياضي رائع أيضاً، كان يمارس لعبة التنس في المدرسة الثانوية، وهو يهوى السباحة فيذهب إلى المسبح مرّتين في الأسبوع. أما على نطاق السياسة فقد كان ليبرالياً معتدلاً. 

وكانت درجاته، إن لم تكن ممتازة، فهي جيّدة في الأقل. لم يدرس تقريباً تحضيرًا للامتحانات، لكنه لم يفشل في الدروس. فقد كان يستمع حقاً إلى المحاضرات.  كان موهوباً على نحو مدهش في العزف على البيانو ويمتلك الكثير من تسجيلات "بيل إيفانز" و"موزارت". ومن كتّابه المفضلين بلزاك وموباسان. وأحياناً كان يقرأ رواية لكنزابورو أوي  أو كاتب آخر. وكانت مقالاته النقدية دائماً دقيقة تماماً.

أما مع النساء فقد امتلك شعبية بصورة طبيعية. لكنه من نوع الرجال "الذي لم يكن في متناول أي فتاة". كانت له صديقة ثابتة في السنة الثانية من كليات البنات العريقة. واعتادا على الخروج معاً كل يوم أحد. على أية حال، كان هذا هو "كيو" الذي عرفته في الكلية. باختصار، كانت شخصيته تخلو من العيوب. 

وقد عاش كيو في شقة قريبة إلى شقتي. ومن خلال إعارته الملح أو إعارتي الصلصة نمت بيننا الصداقة، وسرعان ما تبادلنا أماكننا دائماً واستمعنا إلى اسطوانات التسجيل وشربنا البيرة. 

وفي إحدى المرات قمنا أنا وصديقتي بجولة بالسيارة إلى ساحل كاماكورا مع كيو وصديقته. وكنا مرتاحين جداً. ثم خلال عطلة الصيف في سنتي الأولى انتقلتُ هناك.في المرة التالية رأيتُ كيو وقد مرّ عقدٌ على ذلك. كنتُ أقرأ كتاباً أمام حوض سباحة في أحد فنادق الدرجة الأولى الفخمة بالقرب من حي أكاساكا.

كان كيو يجلس في الكرسي المجاور لي، وبجانبه كانت امرأة جميلة ذات ساقين طويلتين وترتدي البكيني. 

علمتُ حالاً بأنه كيو. كان وسيماً كالعادة وقد اجتاز سن الثلاثين و اكتسب احتراماً محدّداً لم يكن يمتلكه من قبل. وكانت النساء اللاتي يمررن به يلقين عليه نظرة سريعة. 

لم يلاحظني وأنا أجلس بجواره. كنتُ رجلاً ذا مظهر عادي وارتدي نظارات شمسية. ولم أكن متأكداً إن كان يتوجّب عليّ أن أكلمه، لكني قررت أخيراً أن لا أكلمه. كان هو وصديقته منهمكين في الحديث وتردّدتُ في مقاطعته. 

إضافة إلى أني ليس لديّ الكثير مما أتكلم فيه معه. "هل تتذكر أني أعرتك ملحاً؟" وسيقول:" نعم صحيح، وأنا أعرتك قنينة من الصلصة". وسوف  نُنهي الحديث بسرعة. لذا لزمت الصمت ورجعت أقرأ في كتابي. 

  مع ذلك لم أستطع أمنع فضولي من التنصت إلى حديث كيو مع صديقته الجميلة. كانت المسألة معقدة نوعاً ما. وتخليتُ عن القراءة وأصغيتُ إليهما.

قالت المرأة:

- مستحيل! لا بدّ أنك تمزح 

قال كيو:

- أعرف، أعرف، أعرف بالضبط ماذا تعنين! لكن يجب أن تنظري إلى المسألة على طريقتي أيضاً. فأنا لا أفعل ذلك لكي أفرض رغبتي. يتعلق الأمر بالناس الذين في الطابق العلوي. أنا أخبرك فقط ماذا قرروا. فلا تنظري إلي بتلك الطريقة. 

قالت:

-  نعم تمام.

وتنهّد كيو. 

دعوني أوجز محادثتهما الطويلة، وهي مليئة بكمية كبيرة من الخيال طبعاً. بدا أن كيو هو الآن مخرج في محطة تلفزيونية أو في مكان آخر، وكانت المرأة مغنّية معروفة نوعاً ما أو ربما ممثلة. وقد طُردت من مشروع بسبب مشكلة ما أو فضيحة تورّطت فيها، وربما بسبب شعبيتها التي بدأت بالتدهور. وقد تُركت مهمة اخبارها إلى كيو الذي كان الشخص المباشر المسؤول عن العمليات اليومية. لا أعرف عن صناعة اللهو والتسلية لذا لا أستطيع أن أتأكد من النواحي الإيجابية في عمله، لكني لا اعتقد أني بعيد جداً عن المغزى عموماً. 

ومن الحكم على ما استمعتُ إليه يبدو أن كيو قد تخلى عن مهمته بإخلاص حقيقي.

قال:

- لا يمكن أن نبقى في مجال عملنا دون ضامنين كفلاء، يجب أن لا أخبرك بذلك فأنتِ تعرفين التعامل التجاري. 

- إذن أنت تخبرني بأنك تخليتَ عن المسؤولية أو ما يتعلق بالمسألة؟

- كلا. لا أخبرك بذلك. لكن ما أستطيع أن أفعله محدود جداً.

واتخذ حديثهما  مسارا آخر حتى وصل إلى طريق مسدود. أرادت أن تعرف مدى ما بذل هو نفسه من أجلها. وأصرّ بأنه فعل كل ما بإمكانه لكن بالطبع ليست لديه وسيلة لإثبات ذلك، ولم تصدقه. 

وأنا من جهتي لم أصدقه، فكلما لاحت محاولته صادقة في وصف الأمور طاف ظلٌّ من الخيانة حول كل شيء. على أنه ليس خطأه. لم يكن خطأ أحد. وهذا هو السبب أنه لا مخرج من هذه المحادثة.  

بدا لي أن المرأة كانت دائماً معجبة به. وأحسسّتُ أنّ علاقتهما كانت طيّبة إلى أن ظهر هذا العمل المنغّص. ومن المحتمل أنه ضاعف من غضب المرأة. لكن في النهاية كانت هي الطرف الذي استسلم. 

قالت:

- حسناً فهمت الأمر. هل ستشتري لي الكوكا كولا؟

حين سمع ذلك تنفس كيو الصعداء وذهب إلى حانوت المشروبات. لبست المرأة نظاراتها الشمسية ونظرت إلى الأمام. وأثناء ذلك، كنتُ قد قرأت السطر نفسه في كتابي مئات المرات. 

ثم عاد كيو بقدحين كبيرين. وسلّم أحدهما إلى المرأة وغاص داخل كرسيه. 

قال:

- لا تكتئبي من ذلك. في أي يوم سوف...

لكن قبل أن ينهي جملته الأخيرة رمت المرأة قدحها المملوء عليه. وسقط مباشرة على وجهه، بينما انتثر ثلث شراب الكوكا كولا عليّ. 

نهضت المرأة دون كلمة ونزعت القليل ونزعت منشفة تلفها حول لباسها البكيني دون أن تنظر للخلف، ومشت بخطى واسعة.  

 بقينا أنا وكيوّ مصعوقين لمدة خمس عشرة ثانية. وكان الناس المجاورون لنا يحدقون بنا مندهشين.  كان كيو أول ما استعاد رباطة جأشه. 

قال:

- آسف.

وحملَ منشفة وقدمها لي. 

أجبتُ:

- حسناً. سوف استحمّ.

وبدا منزعجاً قليلاً فسحب المنشفة واستعملها لتجفيف جسده.  

قال:

- على الأقل دعني أدفع ثمن الكتاب.

 فعلاً أتلف الشراب كتابي. لكن سعره رخيص وليس من النوع المهم. 

فكل مَنْ يرمي عليه مشروب الكولا ويمنعني من قراءته فإنه يفعل خيراً لي. غمرته الفرحة حين قلتُ ذلك. وكانت له الابتسامة نفسها دائماً. 

في تلك اللحظة غادر كيو معتذراً لي مرّة أخرى بينما يتأهب للذهاب.

 لم يدرك أبداً مَنْ أنا. 

قررتُ أن أعطي عنوان "المملكة الفاشلة" لهذه القصة لأنه صادف أن قرأت مقالة في صحيفة المساء في ذلك اليوم عن مملكة أفريقية أصابها الفشل. تقول المقالة:" أن ترى مملكة رائعة تتهاوى لهو أكثر حزناً من أن ترى جمهورية من الدرجة الثانية تسقط". 


عن مجلة {نيويوركر} 13 أغسطس- آب 2020