خُلقنا لنتفلسف

ثقافة 2023/08/26
...

 حازم رعد


قد تبدو الفكرة الاساسية من ايجاد هذا الكون الفسيح "بمعنى ضرورة وجود الغائية والهدفية منه" وكذلك اشكاليات التساؤلات الوجودية الكبرى "من اين وإلى أين" تحومها الضبابية وعدم الوضوح، أو لعلها غير ممكنة "المعرفة" بالنسبة لعقولنا القاصرة التي تأنس بالظواهر، اي خصوص ما يبدو لها وقليل مما وراءها، ولذا يشيح انكساغوراس وهو من أهم الفلاسفة السفسطائيين بوجهه عن كل محاولة معرفية تقع في مجال "الما وراء"، عازياً ذلك لقصر أعمارنا، ولا نهائية الموضوعات تلك.

مع ذلك لا بد من التفلسف حتى نحقق إجابات عنها فالمجهول مرهوب غياب المعنى يقض مضجع الانسان ويصيب حياته بمقتل، لذا وبما أن [موضوع الفلسفة هو «المعنى» ومهمتها هي إيضاح المعنى] بحسب شيلك مؤسس دائرة فيينا، وذلك في ضمن ما هو متيسر وهذه من المشكلات المستدامة عبر التاريخ اذا لم يوفق أحد من اتجاهات واشخاص إلى ايجاد اجابة تامة عنه عدا اسهامات الفكر الديني المتنوعة وهذه الاخرى كاتجاه معرفي ليست محل اتفاق عند اتباع الاتجاهات الفلسفية، وصعوبة ايجاد الجواب عن هذه الاشكاليات وما يشابهها من الواضحات التي لا غبار عليها، ولا تستحق عناء الاسهاب بالحديث والتدليل عليها وذلك لأمور منها.

1 -  إن معرفتنا عن الكون في حدود ما وصلنا من العلم وهذا الاخير، لا يعدو كونه مشاهدات وتجريبات، وهي محدودة بحدود ما توصل اليه الفكر البشري، ولا يمكن أن يتعداه وذلك ما يجعلنا أمام بون شاسع من المجهول (عدم العلم) من أجزاء وتفاصيل هذا الكون الفسيح بمجراته وكواكبه وخفاياه.

2 -  إن ما يتناهى وهو "الفكر" بحدود لا يمكنه الحظوة بما لا يتناهى "الكون الفسيح"، فإننا نحاول في كل مرة أن نتوفر عن اجابات عن أشياء أكبر بكثير من عقولنا وفهمنا المتناهي بحدود المعرفة "العقلية والتجريبية وحتى الدينية" فما نحاول التوصل اليه يفوقنا بكثير جداً، وهذه الفكرة ثابتة عند العقل الانساني وهو يصدق بصحتها بشكل عام.

3 -  السؤال في هذا الخصوص غير منتج وهو سؤال سيئ الطرح، بحيث يثير ازدراء ذوي القعل والمنطق فأننا نحاول اضافة معنى عما لا نعلمه اساساً ولا يمكن أن نعلمه لا أقل في الحاضر.

مع كل ذلك لا بد من عدم تعطيل حركة العقل والعلم والبحث عن تحقيق اجابات عن التساؤلات المتكررة في هذا الخصوص من باب ما لا يدرك كله لا يترك جله، وهو المتيسر وايضاً أن الإنسان مجبول على حب الاستطلاع وبلوغ الكمال بالكلية ومنها تحصيل المعرفة والعلم بالمجهولات (فكل مجهول مرغوب) للتعرف اليه اكيداً، وبذلك ترتسم خارطة الفكر الانساني بجلاء في كونها متفلسفة يقول ارسطو (ليست الطبيعة هي التي تحاكي الصنعة البشرية (التفكير)، بل هذه هي التي تحاكي الطبيعة، كما أن المقدرة البشرية على الصنعة (التفكير) قد وجدت لمساندة الطبيعة وإكمال ما تركته ناقصا)، أي أن الطبيعة البشرية مفكرة وباحثه عن الحقيقة واستكناه الخفايا تحصيلاً للمعرفة ودفعاً للمخاوف النفسية الناجمة من عدم العلم حتى تستقر على نحو من العلم يشعرها بالكمال من جهة والطمأنينة من جهة اخرى وبحسب ارسطو (إذا كانت السعادة هي القدرة على التفكير، فمن الواضح أن الحياة السعيدة ستكون من نصيب الفلاسفة وحدهم). وايضاً تظهر الفلسفة في احد تفسيراتها ان تبحث في خصوص ما (لا اجابة عنه) بشكل مطلق فما يثبت له معنى واجابة هو يتموضع في حقل العلوم يقول بتراند راسل (إن مهمة الفلسفة ليست في تحصيل مجموعة من الحقائق، مثل سائر العلوم، بل في البحث في ما لم يتيسر الحصول على جواب عنه من مسائل).  بينما فعل الفلسفة ممارسة التفكير والبحث بينما يعتبر في مجال معرفي لا إجابات نهائية عنه، وذلك ينسجم مع تعريف الفلسفة بأنها البحث الدائم عن الحقيقة، ولكن دون ادعاء امتلاكها، فالبحث الدائم يتناسب مع انعدام إجابات حاسمة تقطع طريق السؤال، فطبيعة حركة العقل الفلسفي تقتضي السؤال الدائم والاستفهامات المستمرة (إن العلوم لا تشمل كل الحقيقة، وإنما تشمل فقط المعرفة الدقيقة الملزمة للعقل والصادقة صدقا كليا. والحقيقة ذات مجال أوسع، وشطر منها يمكن أن يكشف عن نفسه للعقل الفلسفي وحده) بحسب كارل ياسبرز، فمقولة خلقنا لنتفلسف صحيح من هذه الناحية فالإنسان كائن مفكرة متفلسف بطبعة مهووس بإيجاد المعنى والظهور بصورة العارف بالأشياء (إن الفيلسوف إنسان كغيره من الناس، يفكر أولا وهو يشارك في أعمال الناس ومتاعبهم. وأن يعود المرء بعد ذلك إلى هذا الفكر المباشر التلقائي، ويتأمل فيه ليكشف فيه معنىً أو ليهبه معنى؛ هذا هو أن يتفلسف) كما يقول جون لأكروا.

وذلك يتطلب منه جهداً نظرياً وفكرياً وأن تكون الفلسفة هي الشغل الشاغل له دون أي شيء، سوى ذلك ولذل يحدد  فيثاغورس عمله بقوله [أنا لا عمل لي أنا فيلسوف فحسب] لتحصيل مادة معرفية عن الحقائق باعتبار أن التفلسف ما هو الا سيرٌ من السؤال المستمر في حركة العقل الانساني المجبول على حب المعرفة والتعلم والكشف عن الخبايا والمجهولات لبلوغ الكمال العلمي. 

من هنا وعوداً على أصل الموضوع يظل الانساني في حركة معرفية بحثية مستمرة لتحصيل العلم بما لا يعلمه وبينما لا يجد له جواباً ناجعاً يطفئ غليل النفس التواقة لتحصيل العلم بالأشياء، حتى لو لم يصل إلى مبتغاة، لعوارض قد تكون ذاتية كقصور العقل عن ادراكها أو لعوارض موضوعية في عدم تحقق الامكانية في الموضوع المراد معرفته، بسبب عدم القدرة على الاحاطة به، ولذا "إن الإنسان الذي وهب ملكة العقل سيختار الفلسفة، لأن التفلسف هو مهمة هذه الملكة"، بسبب أنه تواقٌ للتفلسف وفك أشفار المجاهيل، وللسيطرة على الأشياء التي لا يعلمها، "فالمعرفة سلطة" بحسب فرانسيس بيكون، من هنا نحن بطبيعتنا نتفلسف ونصرف بالأشياء بحثاً وتحليلاً واستنتاجاً وما إلى ذلك.