فاتح المدرّس: شاهد على جمال الأرض والإنسان

ثقافة 2023/08/27
...

  علي العقباني

قال عنه الكاتب عبد الرحمن منيف "فاتح المدرس في القصة القصيرة، كما في الفن التشكيلي، أحد الرواد والمعلمين… كيف تتحول القصة القصيرة إلى ملحمة، إلى نشيد؟ وكيف تستطيع، باقتصادها المتناهي، أن تتحول إلى عالم بهذا الاتساع؟ هذا هو جوهر الفن، وهذا ما يقوله فاتح المدرس بأكثر من شكل وبأكثر من وسيلة"، ووصف المفكر والفيلسوف والوجودي جان بول سارتر  أعمال فاتح بأنّها تتراوح بين التجريد والرّصانة ووجود الطبيعة، كما نراها في الحلم، وقد قام سارتر بترجمة قصائد لفاتح من الايطاليّة إلى الفرنسية، وقد اقتنى عددًا من لوحاته، كما فعل ذلك الكثير من الفنانين الأوروبيين والمسؤولين  لفاتح موقع مهم في الفن السوري وفي الفن العربي وهو معروف على المستوى العالمي، وأعماله موجودة بمتاحف عالمية، وبمجموعات خاصة عند مشاهير بالعالم.
ولد فاتح المدرِّس في قرية "حريتان" شمالي سوريا عام 1922 لأبٍ إقطاعيّ من مدينة حلب وأمّ كرديّة من إحدى قرى الريف، قُتل والده في السادسة من عمره، واستولى أعمامه على ميراثه، فنشأ فقيرًا في رعاية أخواله، وعاش حياة قاسية متنقلًّا مع أمّه في قرى الشمال.
فقد شهد فاتح المدرس باكراً مقتل أبيه على يد عصبة من المستبدين فتولت عمة له رعايته، لكنه لم يستطع العيش معها بسبب اعتراضها على ميوله الفنية المبكرة ووقوفها في وجه رغبته في الرسم، وأمام إلحاحه الشديد أعيد إلى أمه المُعدّمة التي بذلت جهوداً شاقة لتنشئة أولادها، وأعطت كل اهتمامها لمتابعتهم الدراسة، في الوقت الذي شجعت فيه اهتمامات فاتح الفنية.
فكانت توفر له أوراق الرسم والأقلام رغم فقرها الشديد.
وقد كان لهذه الرعاية أثر كبير في حياته اللاحقة تبدى بظهور وجه أمه في قسم كبير من لوحاته ومنها واحدة من أقدم تلك اللوحات، وقبل أن ينتقل من الواقعية إلى تجاربه التالية، وسنجد ذلك جلياً في  لوحة (سيدة جبل الزيتون) رسم والدته، ورسم لوحة لثلاث نساء وأهداها وهي تضم عايشو (عائشة) أمه، وفاته (فاطمة) خالته، وزكو (زكية) والدة صديقه.
في العام 1950 أقام المدرس أول معارضه التشكيلية الفردية في نادي "اللواء" بحلب، ومن هنا بدأ الناس والمهتمون بالفن التشكيلي ينظرون إلى هذا الفنان القادم، ثم جاء عام 1952 ليكون العام الأهم في تجربته، ففيه شارك في معرضين أحدهما: في الولايات المتحدة والثاني: في السويد وبعد ذلك سافر إلى إيطاليا حيث درس لمدة ست سنوات في أكاديمية الفنون الجميلة فيها عاد بعدها ليدرّس في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، حتى عام 1969 حيث سافر للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس.
وخلال فترة إقامته في فرنسا تعرف على (جان بول سارتر)، الذي قام بترجمة بعض أشعار المدرس.
فاتح المدرس فنان ومجدّد وباحث و وجودي وفيلسوف وشاعر وكاتب وموسيقي، عالمه الفني أقرب إلى التعبيري، قوي، يذهب إلى اللوحة مباشرة بدون دراسات يستنبط الأشكال أثناء العمل المباشر على اللوحة، فقد تأثر خلال دراسته تأثر بالفنانين التعبيريين الألمان، والفرنسيين، والإيطاليين، لأنه درس في إيطاليا وفرنسا، وتأثر بالأفكار الثورية وبالوجودية بأفكار سارتر الفلسفية، واطلع على النتاج العالمي آنذاك، لكنه اختار موضوعاً محلياً له علاقة بجبالنا وسهولنا والبيئة الفلاحية والفلاحات، ببيئته وعائلته ووالدته الكردية، فهو تأثر كثيراً بالجو الكردي، وبأخواله، ذلك كله جعل المدرس يقدم لوحة محلية بكل مكوناتها التعبيرية والبصرية، وصفها البعض بأنها فن سوري استلهم من التراث بحداثة مبتكرة ومميزة نقلته إلى العالمية، فعوالم بيئته المحلية حاضرة بقوة اسماً ومعنى في أعمال المدرس فلوحته الأشهر اسمها (كفر جنة) في غرب حلب، وهي اللوحة التي نالت الجائزة الأولى في المعرض السنوي الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق، والتي اعتبرت فاتحة اتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، وسنجد لوحات تحمل أسماء مثل: صلاة البادية السورية، نساء من بقين، قصص الجبال الشمالية، من الشمال السوري، وادي بردى، مرتفعات بلودان، التدمريون، فتيات تدمريات.. وغيرها الكثير، وهذا الحضور الثري للبيئة السورية سيظهر في رسمه الدائم لسهول الشمال السوري في لوحاته، أما تأثيرات التراث الفني المحلي فتظهر من خلال أسلوب بناء اللوحة، ولذلك فإن فاتح المدرس يرد على الذين يضعون تجربته في إطار إحدى المدارس التشكيلية بقوله: انه ليس تجريدياً ولا سريالياً ولا تعبيرياً، وإنما هو شاهد على جمال الأرض والإنسان كما هو شاهد على أحزان عصره، فقد أجاب مرة حين سئل عما أضافت أوروبا اليه بأنه جاء اليها بخيال مليء
بالصور.