محمد صابر عبيد
إن الإجابة عن سؤال ذي أهمية بالغة وعميقة على الأصعدة كافة مثل هذا السؤال الذي غالباً ما يطرح بوصفه سؤالا إشكاليّاً شائكاً على الصعيدين الرؤيوي والمنهجيّ: (كيف تقرأ نصاً أدبيَّاً؟)، لا يمكن أن تسير في مساق واحد من مساقات الرؤية لبناء إجابة واضحة وحاسمة ونهائيَّة، وإذا ما عمدنا إلى وضع منطلقات نظريَّة تؤسس لفكرة الإجابة باحتمالاتها المتعددة وصولا إلى الحقل الإجرائيّ، فإن هذه المنطلقات لن تذهب عميقاً في متاهات النظريَّة إلى درجة التشكيل النظري الصارم.
بل ستعمل على استنطاق التجربة الميدانيّة بسخونتها المعروفة المشحونة بحياة المعرفة والتذوّق في حقول القراءة والتحليل والتأويل، والاستعانة بما يتلاءم معها من مهادات نظريّة (رؤيويّة ومنهجيّة) تسهّل فعالية الحراك القرائيّ وتدعم حضور المفاهيم والمصطلحات وأساليب الإجراء.
تتشكّل هذه الرؤية في الميدان على النحو الذي يجعل من المنطلقات النظريّة وسيلة للتعرّف والفهم والفحص والرصد والتداول، لا أن تكمن القوّة النظريّة للمفاهيم والمصطلحات والرؤيات في منطقة ملتبسة وغامضة وغيميّة شبحيّة لا تمنح نفسها بسهولة، تتحرّى البعد لا القرب، والسكون لا الفعل، والغياب لا الحضور، بينما يشتغل الإجراء في منطقة أخرى بعيدة تتبدّى وكأنَّ بوسعها الاستغناء عن منطقة النظريّة والعمل بعيداً عنها بحريّة أكبر، وهو ما يجعل من الرؤية رؤية إجرائيّة تتطلّع إلى بناء النظريّة.
الكثير من القراءات تبالغ في التوصيف والتشكيل والإعمال النظريّ إلى درجة التعمية والتعتيم والالتباس والتداخل والإبهام، وتتعالى في تزمّتها النظريّ المُدّعَى وكأنّه لا سبيل إلى مضاهاته أو مقاربته أو التعامل الطبيعيّ معه، وحين تبلغ حقل الإجراء تتنازل هذه القراءات المتعالية البعيدة نظريّاً عن كثافتها النظريّة المعمّقة الغارقة في اليباس والجفاف، لتهبط إلى مستوى مفاجئ من التبسيط والشرح في مباشرة النصوص المقروءة، على النحو الذي يفصل تماماً بين حقلين لا صلة عمليّة ومنهجيّة واضحة بينهما ويعزل أحدهما عن الآخر عزلاً تامّاً، حقل النظريّة البعيد المنقطع وهو يعمل في منطقة مغايرة وذات طبيعة معرفيّة مختلفة وكأنّه يعمل لحسابه التعصبيّ المغرور برؤيته الناشفة ليس غير، وحقل الإجراء القريب السطحيّ والمباشر وهو يعمل بمعزل عن منطلقات النظريّة ومقارباتها وتجلّياتها المختلفة، بلا أدنى اهتمام عمليّ ميدانيّ بالمهاد النظريّ المُقترح في بداية العمل.
لا نزعم أنّ لدينا نظرية خاصّة شافية وكافية وحاسمة ونهائيّة تعتمدها تجربتنا القرائيّة بالمعنى المنطقيّ الصارم المُحيط بفكرة النظريّة وجوهرها، على النحو الذي يرفع مقام النظريّة إلى مستوى الأسطورة والإرهاب والترويع والإكراه، ويحوّلها إلى مصدر تجهيل وتسلّط وفرض ومصادرة، بل لنا رؤيتنا النقديّة الخاصّة ذات الأصالة الحداثيّة الواعية المستندة إلى ظهير تراثيّ جيد نسبيّاً، ولنا منهجنا النقديّ الذاتيّ الأصيل القائم على الإفادة العمليّة ممّا هو متاح من مناهج نقديّة حديثة ورؤيات وفلسفات ونظريات وعلوم ومعارف، من دون الارتكان لمنهج منفرد بعينه يضطهد الرؤية، ويسجن القراءة، ويمنع الماء من الجريان في أرض الجدول، ويعيق سلاسة وصول ضوء الشمس إلى رطوبة التربة.
هذا المنهج هو في سياقه العام منهج يسعى إلى تسخير كلّ شيء متاح من أجل خدمة الفعّاليّة القرائيّة الإجرائيّة داخل حقل القراءة، لا يدين بالولاء المطلق لأيّ منهج مُعلن ومسمّى ومتداول في إطاره النظريّ الفلسفيّ المعرفيّ، بل يستثمر طاقة الأدوات المشحونة جيّداً كي يفعّلها في حقل الإجراء، على نحو تتألّق فيه الشخصيّة النقديّة القارئة لتتعالى فوق الأدوات ومرجعيّاتها النظريّة والرؤيويّة والمنهجيّة المختلفة.
ولا شكَّ في أنَّ الرهان الحقيقيّ حول نجاح القراءة على صعيد الممارسة والإنتاج يتوقّف على قوّة حضور الشخصيّة النقديّة القارئة في الميدان القرائيّ الديناميّ، وهذه
القوّة هي التي تصنع ما نصطلح عليه بـ (الأسلوب)، فإذا لم ينجح القارئ/الناقد بعد تجربة ثرّة وواسعة وعميقة في إنتاج أسلوبه الخاصّ النوعيّ في أعلى درجات انتمائه وحيويّته وصيرورته وتشكّله، فلن يتمكّن من أن يكون صاحب شخصيّة نقديّة قادرة
على الإضافة ويشار إليها بالبنان، وسيبقى يدور في حلقة مفرغة منزوعة من طاقة الفكر الخلّاق والرؤية الخلّاقة المُنتجة، إمّا أن يكون فيها مُقلِّداً أو أسيراً لمنهج معيّن يضيع تحت وطأته وضغط أدواته وهيمنتها،
وتصبح شخصيّته مسخاً من مجموعة ملتبسة كبيرة من الشخصيّات الأخرى، لا تعرف أين تحطّ ولا تعرف أين تستقرّ، ولن تعرف لها طريقاً خاصّة بها مهما
فعلت.
فلا مجال إذن لولادة شخصيّة نقديّة لها خصوصيتها في المشهد النقديّ العامّ والخاصّ، من دون إدراك حقيقة الحاجة الضروريّة الفريدة إلى بروز هذه الشخصيّة في حقل القراءة الإجرائيّة المُنتجة للجديد والطريف واللافت والمدهش، وقدرتها على تمثيلها بوضوح وتجلٍّ عميقين، بحيث تكون المناهج كلّها في خدمة الشخصيّة وليس العكس كما يحدث للكثير من الممارسين للقراءة التي تنحو هذا النحو، حين يتكلّم المنهج لا القارئ.
القراءة الإجرائيّة بثقل ممارستها النقديّة واستمراريّة خبرتها هي الوسيلة المثلى لإنتاج النظريّة، فممّا تنتجه القراءة على مسيرة خصبة ناضجة ذات ديمومة حيّة وحرّة متطوّرة ومُنتِجة يمكن وضع صورة نظريّة لمنهجيتها الخاصّة، وهذه المنهجيّة هي إفراز نظريّ ميدانيّ لمنطلقات نظريّة بوسع المراقِب رصدها وتجميعها في سياق نظريّ واضح، وهي الطريق الصحيحة لتشكيل النظريّة النقديّة النابعة من صلب الممارسة الإجرائيّة، فإمكانية التقاط جزيئاتٍ وكِسَرٍ وإلماحاتٍ وأفكارٍ وحيثياتٍ ولقطاتٍ يجري وصفها على أنّها تمثل منطلقات نظريّة جديدة من صُلب الفعاليّة الإجرائيّة، من شأنها أن تقدّم رؤية نظريّة بوسعها أن تكون مقدّمة لنظريّة نقديّة خاصّة، تكون نابعة من وحي التجربة وحساسيّتها وآفاقها على نحو فعّال ومنتج وصالح للتوظيف.
أمّا جلب النظريّة من خارج منطقة الإجراء (وغالباً ما تكون في ضوء معطيات المنهجيّات الحديثة كلّها من مضانٍ فلسفيّة أو علوم إنسانيّة واجتماعيّة أخرى) ستكون فعّاليّة مشكوك في صلاحيّتها للعمل الكشفيّ والتنويريّ على المستوى الإبداعيّ الأدبيّ، على الرغم من أنّ الإعداد المعرفيّ الخاصّ بتكوين الشخصيّة النقديّة لا بدَّ وأن يستند في تشكيله إلى المعرفة النظريّة بكلّ أشكالها، لكنّ المهادات النظريّة الخاصّة بالفعاليّة النقديّة لا يمكن أن تأتي إلّا من أرض الإجراء القرائيّ النقديّ المستمرّ، على نحو يفرز شبكة من المنطلقات النظريّة التي ينتجها الفاعل الإجرائيّ النقديّ، في سياق تجربة عميقة وثرّة قادرة على بلوغ هذه المرحلة من الإنتاج النظريّ المستند إلى خبرة عميقة وواضحة وأصيلة.