القصيدة المُفكّرة

ثقافة 2023/08/28
...

 ملاك أشرف

يميل الشاعر العراقيّ فوزي كريم في كتابه (القصيدة تغني ولكنها تفكر أيضا) بجرأة إلى الشعر المفكر ويعني تطلعات الشاعر الفكرية ولحظات تأملاته الفلسفيّة، التي تنطوي تحتها العديد من التساؤلات والاستنتاجات الوجودية الخاصة، يريد من خلال مصطلح القصيدة المفكرة أن يزيلَ شبه التقديس للتزويقات البلاغيّة والبراعة اللفظيّة المهيمنة على القصيدة والمغطية على أفكارها بشكل واضح، يلتمسه القارئ المثاليّ من أول وهلة لا شك.

لا ينفي فوزي كريم القصيدة الغنائيّة الوجدانيّة إطلاقًا، إنّما يُفضّلها إن لَمْ تنصرف كُلّيًا إلى الغناء، العاطفة واللُّغة والأسلوب قط، يقرأها إن جمعت مع غنائيتها، عاطفتها المُفرطة ولُغتها المُتحمّسة المضمون الحيّ، الناجم عن كيان الشّاعر الجسديّ والروحيّ برمّته وليسَ بالضرورة التفكير الجامد الرياضيّ. 

أتبنّى- أنا- رؤيته المُعمّقة والفريدة وأكادُ أكون على يقين من نجاح القصيدة المُفكّرة داخل القصيدة الغنائيّة وكأنّ الأنسب أن نقولَ (القصيدة المُكثفة مرّتين) وهي ذات معنى مُغاير يُستنبط أو يُشتق من عقل وقلب مُفكّر معًا بما أن القلب عضو نابض لا يختلف في التفكير عن العقل أبدًا، في المرّة الأولى اشتغال لُغويّ رشيق وأنيق والمرَّة الثانية اشتغال فكريّ جادّ ومُهمّ.

ينبغي للقصيدة أن تجاهدَ وتنمو في ظلال الوحدة جيّدًا من أجلِ الوصول إلى المستوى الذي يطمح إليه كريم، المستوى الذي تُنتقى فيهِ الألفاظ بعنايةٍ ودقّةٍ كي تُتطابقَ الأفكار وتصبح مُناسبةً لها فيما بعد، إذ الأفكار المُستخلصة من فكر الشّاعر وتجربته الفرديَّة أو من تجربة الآخرين والتي تُرافق العناية اللُّغويّة هي مادّة الشِّعر الحقيقيّة؛ لأنَّ الشِّعر ليسَ رداءً يُلبس حولَ الفكر بل هو جزءٌ رئيس من الفكر على حدِّ تعبير فوزي. 

حيث يجب أن يعي الشّاعر مدى خطورة الشِّعر كما يعي حساسيّة تعاملهُ مع مُصطلح الشِّعريّة الغائمة والشّاعريّة الضّبابيّة إلى جوار وعيه بمسألةِ الاعتناء بالنّاقد المُثقف، الّذي لا مفرَّ من سطوعهِ عندَ الكتابةِ وشتان ما بينَ ناقد الشِّعر الدّاخليّ وناقد النّثر الاعتياديّ، هذا الأخير أقلّ صرامةً على المكتوبِ المُنسوج من قبل النّاقد الشِّعريّ بحكم جوّ القصيدة المُختزل الفاضح، التي لا مناص من إِتقان جوانبها الفكريّة والشكليّة كافّةً؛ لإتمام المعنى ورحلتهُ إلى الشّاعر وعدم تعليق القصيدة بدبوس المظهر الخارجيّ الرنّان المُؤدي إلى الانزلاقات والنسيان الخطير.

تتمحور مُعظم صفحات الكتاب (القصيدة تُغنّي ولكنّها تُفكّر أيضًا) حولَ آراء مَن يكتبون الشِّعر فإنّهم عندما يقرّرون البدء في الكتابة يكونون قد مجدوا الشيء المُراد ولا يُعنون بهِ وكفى؛ بغية إظهار فكرتهم وجوهر الخبرة وماهيتها على أكمل وجه مُمكن بدلًا من استكمالها عن طريق الذهن التجريديّ أو القلب الذي يُغني برهافةٍ ولا يُفكّر بتأسيس قاعدة إسمنتيّة متينة لبناء الآتي بصورٍ مُتواشجة، مُتوحّدة الصبغة وبثقافة غنيّة تجعل ما تبقى قويًّا ومُشرقًا كالنهار. 

يُحدّد فوزي في هذا الكتاب ملامح الشّاعر المُحتال ويصفهُ بأنّهُ ينفي الذكاء عنوةً ويقلّبهُ إلى احتيال عبرَ الأدوات الشكليّة التقليديّة ليرضي القارئ وأهواء المُحيطين بهِ، مُستعملًا كتب النقد القديمة إن انتمى إلى القديم والحديثة إن اختار الجديد، وهو الشّاعر- كما يدعي- الأكثر شيوعًا وسيطرةً الآن، شاعر لا ينتج نفسه بنفسه أو ينتج شِعرًا على نحوٍ مُجدٍ، وإنّما ينتجهُ القُرّاء السطحيون، الصحف المُبتذلة والمهرجانات المُزيّفة، وهُم الأكثر حظوةً وموظةً في المرحلة الراهنة الضحلة أو مرحلة ما بعد الحداثة الوهميّة ورطانتها المُستمرّة للأسف الشديد!. 

إنَّ الشّاعر لا بُدَّ أن يُلاحقَ بصيرته الدافعة بهِ إلى التأمل، التأني والتفكير الفلسفيّ والنقديّ وحسب، أن يقولَ: «إن بصيرتي معي» لا أن يُردّدَ بنرجسيّةٍ وهوسٍ إعلاميّ: «الجمهور والتفاعل معي» وعليهِ يفقد الشِّعر صحته مثل علب السردين التالفة، يخسر مسعاهُ النقيّ المُقدّس ويتحوّل إلى خاطرة وخطابة تُفتن المرء بكلماتها لا معانيها، إذ يصبح اللّسان أمهر من العقل والمصلحة النفعيّة الناقصة أهمّ وأسهل من الشِّعر المُدهش المكتوب بجهدٍ جبّارٍ هائل، وبالذّوق الرّفيع والمشاعر الساميّة مثلما (أرى) ويرى فوزي تحديدًا.

أمّا النماذج الشِّعريّة المطروحة في فحوى الكتاب، مثل: (سعيد عقل، خليل حاوي، إلياس أبو شبكة..) فتضيق المقالة بذكرها ولا داعي لتكرارها؛ لذلك مُمكن للقارئ أن يُراجعها متى شاء، بينما سأتناول تجربة شِعريّة أجدها مُلمّة بالموسيقى العاليّة الطربيّة والفكر السليم الحكيم، أهملها فوزي كريم وتغاضى عنها ببساطة، عجيب منهج النقّاد وانحيازهم الوامض في سماء الأدب! وهي تجربة الشّاعر اللبنانيّ ميخائيل نعيمة النادرة قطعًا. مَن يعدّه فيلسوفًا أو ناقدًا وليسَ شاعرًا لا علاقةَ لي بنظرته القاصرة غير الشّاملة، فقد أنجزَ ميخائيل ديوانًا شِعريًّا واحدًا قصيرًا معنوّنًا بـ (همس الجفون)، استنادًا إلى ثقافتهِ الفلسفيّة والنقديّة الغنيّة وفيض عاطفته الخالصة من دون أن يُبالي بالكميّة الشِّعريّة والشهرة الصحفيّة والمنبريّة بالرغم من النهضة البرّاقة التي حدثت ونزعته الجماليّة الرُّومانتيكيّة الوفيّة، كتبَ جاحدًا الأغراض الباليّة آنذاك ما يلي: «وأصلّي في داخلي للأماني/ والأماني في الجهر يضحكنَ منّي/غير أنّي لا بُدَّ أبلغ يومًا/ فيه أُمسي حُرًا عديمَ التمنّي!» أو ما كتبه في قصيدته يا وحدتي: «كنتُ وإيّاكِ وحيدين يا وحدتي/ ووحيدين سنبقى إلى آخر الدهر/ ولكن، لله ما أفسحنا اليوم/ يا وحدتي وما أغنانا/ فنحنُ بِها وفيها ومعها/ نصافح الأزل بيمنانا والأبد بيسرانا». يُغيّر شِعر ميخائيل المُنير وأمثاله الاعتقاد السائد عن الشِّعر بأنهُ عاجزٌ عن تقديم المعارف، الحقائق والأخلاقيات أو خادعٌ كاذب يمنح اللّذة الماتعة وهو ما حاولَ كريم أن يصرفَ نظر القارئ العربيّ إليه وأن يزيح الأوهام من تصوّرات القُرّاء عامّةً منذُ البدايةِ وقد ظفرَ بذلك بإتقان وتركيزٍ عالٍ باستعمال أمثلة جليّة، «ليسَ على القصيدة أن تعني، بل أن تكون» أي أن تصنع من قبل صانع ماهر صاحب فلسفة شاعرة ومُؤثرة في جوهرها، يقول الشّاعر أرشيبالد ماكليش أو كما قال الشّاعر كولريدج إنّ الصورة الشِّعريّة هي اتحاد الفكرة بالشعور. إذن آفة الفنون والأشياء جميعها ألّا تكون على هيئةِ شِعرٍ، خسارة الشاعر أن يكتبَ شِعرًا بلا تفكير يُصاحب الشعور وضالة الشِّعر أولئك الشُّعراء الذين يفكرون برويّةٍ، تاركين هموم الإسراع في الكتابة والنشر وراءهم بلا وخزاتٍ ندميّة أو محنٍ عصبيّة مُنهكة لخلايا الذهن والجسد، فضلا عن عدم تنازلهم عن جانب فكريّ فلسفيّ مُقابل جانب جماليّ غنائيّ والعكس صحيح، إن التوازن الخالي من الاعتلال بأحد الطرفين هو طريقهم الأنجح لا ريب، إذ الوثوق باللمحات الفلسفيّة الفكريّة وغرسها في القصيدة الوجدانيّة هو ما سيمحو الفقر والزيف الذي يُعاني منه الشِّعر العربيّ، بحجة أن الشِّعر انفعال ونغم مُرتفع فقط، إن القصيدة الفكريّة والتأمليّة المبنية على أساس البصيرة والخبرة الداخليّة ستمحو الشائعات المدوّية حولَ الشِّعر ولو بعد حين.