آيس كْرِيم

ثقافة 2023/08/29
...

 حسن السلمان

لا يتذكر كم مضى من الأعوام، وهو لم يتخلف عن موعد العشاء المحدد بالساعة التاسعة مع أولاده الأربعة وزوجته إلا في مرات نادرة، كأن يكون متوعكاً صحياً، أو لأسباب قاهرة خارجة عن إراداته.. عادةً ما يتوسط عائلته الصغيرة في تمام التاسعة مساء، ويبدؤون بتناول طعامهم بعد أن يسموا باسم الله بصوت مسموع.  في الساعة السادسة عصراً، غادر منزله الكائن في طرف المجمع السكني، الذي يطل على الشارع العام لحلاقة شعره، ولشراء بعض الحاجيات من السوق. ألقى التحية على جارته الأرملة الأربعينية، التي تسكن قبالة منزله، والتي كانت واقفة على الباب وقتذاك ومضى في سبيله.  أمضى ساعة في صالون الحلاقة قبل أن يحين دوره بتقليب مجلات مصورة، تعنى بأخبار الفن والفنانين. أنهى حلاقة شعر رأسه ومضى باتجاه السوق.
لفَّ ساعة على محال السوق وابتاع حاجياته، وهمَّ بالعودة إلى البيت قبل أن يحلَّ الظلام ويتأخر عن موعد العشاء. كان واقفاً على الرصيف يومئ لسيارات التاكسي عندما صادف بعض رفاقه القدامى. تبادلوا التحايا والسؤال عن الأحوال والصحة واقترحوا عليه الذهاب إلى إحدى المقاهي لاحتساء القهوة والشاي وتبادل الأحاديث واستذكار الأيام الخوالي. اعتذر متعللاً بأنه على عجلة من أمره، ولكنه تحت ضغطهم وإلحاحهم وشعوره بالحَرج من قضاء بعض الوقت معهم، وافق على مضض، مقرراً مع نفسه أن لا يطيل البقاء.
في المقهى، مضى الوقت سريعاً مع حديث الذكريات، وتبادل الطرائف، واحتساء القهوة والشاي وتدخين الأرجيلات.. كان في وادٍ، ورفاقه في وادٍ آخر. كان يتظاهر بالإصغاء إلى أحاديثهم، وعينهُ على ساعة المقهى التي اقتربت عقاربها من الساعة السابعة..
نظر إليه أحد أصدقائه، وكان زميلاً له في الكلية، مستغرباً كيف تحول ذلك الشاب الجامح، الدون جوان، الرجل الملك كما كان يكنى، الذي لا يأبه للوقت، والذي لم تصمد أمام وسامته وأناقته وجاذبيته وجرأته أرصنَ الطالبات وأشدهنَّ تمنعاً، إلى رجل هادئ، خامل، وقور، بصلعة خفيفة، وفودين أشيبين، وكرش صغير..
نظر إليه أحد أصدقائه الذي كان رفيقاً له في مركز تدريب المشاة كجنديين مكلفين، وكيف تحول ذلك الجندي المتمرد المشاكس إلى حمل وديع بالكاد يرفع صوته.. يتذكر كيف كان يُعاقب بالزحف على بطنه قاطعاً ساحة المعسكر الغارقة بمياه الأمطار والوحل والعريف يقف على رأسه بعصاه، أو الوقوف بوضع الاستعداد لساعة تحت شمس الصيف الحارقة حتى يغيب عن الوعي ويسقط فوق تراب ساحة المعسكر الفائرة، أو الهرولة حول محيط المعسكر، وهو بكامل عدته الحربية من الخوذة وزمزمية الماء وقناع الوقاية وجعبة مخازن الذخيرة، حاملاً بندقيته إلى أعلى، حتى بروكه على ركبتيه بعد أن يعجز عن نقل قدميه من شدة التعب والإعياء، ليُحمل ويلقى خلف قضبان سجن المعسكر...
ينظر إليه ويتذكر فلسفته وآراءه المتطرفة من الحياة، إذ كان يردد دائماً من أن الحياة لاتستحق منا أن نحترمها، ويجب أن نتعامل معها، كما يتعامل السيد مع كلابه، أو يجب ألا نندم على أي شيء فعلناه مهما كان خاطئاً، ففي النهاية، تلك رغباتنا الطبيعية، التي جعلت منها العادات والتقاليد لا طبيعية وتستحق الشجب والاستنكار والندم وطلب المغفرة.. كان يقول، إن الحب في حقيقته مجرد رغبة في امتلاك الغير، أو هو مؤامرة ناعمة مغطاة بالعواطف المزيفة لتلبية نداء الغريزة.. كان يتطير من شيء اسمه ارتباط وزواج، إذ كان يصف الزواج مثل إسفنجة هائلة تمتص روح الفرد، وتحد من أحلامه التي لا ينبغي لها أن تقف عند حد، وتحوله إلى قائمة مشتريات، أو ترساً في عجلة العائلة التي لاتتوقف عن الدوران.. كان يقول، من أكبر الجرائم وأبشعها أن يتحول الرجل الحر من حصان بري جامح إلى حيوان ذليل، يجرُّ عربة نقل وظهره تلسعه السياط...
يتململ في مكانه ويشعر بالاختناق، ويستأذن بالانصراف، مكرراً بأنه على عجلة من أمره، لأنه مرتبط بموعد مع أحدهم، فيبادره أحد أصدقائه قائلاً:»منذ متى والرجل الملك الذي كان يدوس على الوقت، ولايتورع عن ضرب الموعد عرض الحائط  يريد أن يغادرنا لأنه مرتبط بموعد؟..سبحان مغيّر الأحول.. ابقَ معنا قليلاً فنحن لم نرك منذ زمن طويل. ابق فلن تطير الدنيا».. يزداد ارتباكاً وتململاً مع ضحكاتهم وتعليقاتهم ويستأذن ثانية ويغادر..              
 كان الزحام قد بدأ بالفعل.. طوابير من السيارات المضاءة المصابيح تسدُّ الشوارع، والمئات من المارة يتدافعون بالمناكب على الأرصفة وأبواب السينمات والمحال التجارية.. بشق الأنفس، استطاع أن يُوقف سيارة أجرة، استغرقتْ وقتاً طويلا قبل أن توصلهُ  إلى محل سكناه  بسبب الزحام الخانق.. نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى الساعة التاسعة إلا خمس عشرة دقيقة وتنفس الصعداء.. همَّ بدخول منزله لكنه سمع جارته تنادي عليه.. توقف مستفهماً فطلبتْ منه إن كان بوسعه تغيير مصباح عاطل استعصى عليها تبديله.. شعر بالإحراج والخجل إن اعتذر عن تغيير مصباح لا يستغرق من الوقت سوى دقيقة أو دقيتين.. دخل منزل جارته، ولطم أنفه عطر بنكهة الليمون.. طلبتْ منه الجلوس ريثما تأتي له بالمصباح الجديد.. جاءتْ حفيدتها الصغيرة بجدائلها الذهبية الأربع، وجلستْ قبالته، حاملةً قطةً بفروٍ ناصع البياض.. وبينما هو جالس بانتظار أن تأتي له جارته بالمصباح، تخيل زوجته وهي تقوم بنقل أطباق العشاء إلى المائدة، وأولادهُ يساعدونها.. جاءت جارته بالمصباح وذهبتْ به إلى مكان المصباح العاطل الذي يتوسط غرفة نومها.. ألقى نظرة خاطفة على سريرها المرتب بعناية، وكوميديون زينتها ذي المرآة التي تشبه جناحاً، ومستحضرات التجميل وزجاجات العطور الأنيقة تصطف على دكّته قبل أن يصعد على كرسي ويبدل المصباح.. شكرته كثيراً، وسألته إن كان يرغب بشرب قدح من الشاي، أو أي شيء آخر فاعتذر بشدة وأرادَ الانصراف لكنها قالتْ له، من المعيب أن  تدخلَ منزلنا ولا تتناول شيئاً،  فما رأيك بشيء من الآيس كريم الذي صنعته بيديَّ.. وافق على مضض وجلس وعينه على الساعة التي اقتربت من التاسعة.. حدّث نفسه بأنه سوف يتناول ملعقة واحد ويصعد إلى شقته وتخيل زوجته وأولاده متحلقين حول المائدة بانتظاره وهم يتضورون من الجوع.. كان يعتقد بأن تخلفه عن موعد العشاء يُعد خطيئة لا تغتفر بحق زوجته وأولاده.    
عادتْ جارته حاملة صينية من الكريستال تتوسطها «كاسة» مضلعة الشكل من الآيس كريم المصنوع من الحليب المطعم بالكاكاو والهال ومبروش جوز الهند.. غادرت الطفلة مع قطتها الصالة وجلست جارته قبالته.. تناول ملعقة من الآيس كريم وماهي إلا برهة من الزمن، حتى شعر بطعم غريب في فمه.. مع الملعقة الثانية، شعر بأن تجاويف جمجمته قد تفتّحتْ مثل حديقة عطشى وقد غمرتها المياه فجأة حتى خيّل إليه، بأنه سمع أصواتاً تشبه صوت تكسر الجليد يتردد فيها.. مع الملعقة الثالثة، شعر بحرارة لطيفة تسري في جوفه، وتتسرب إلى أعصابه وشرايينه وكل أنحاء جسده.. راح يتنفس بعمق، واستغرب كيف لم ينتبه لجمال وسحر جارته الأرملة الأخاذ وهي تجاوره منذ زمن بعيد؟.. في تلك الأثناء تجاوزت الساعة التاسعة بعشر دقائق دون أن ينتبه.. تأمل لوحة زيتية تحتل منتصف الحائط لمنزلٍ مشيدٍ على الطريقة الصينية يطلُّ على حوض سباحة ذي مياهٍ زرقاء، تحيط به أشجارٌ ذات زهور وردية.. انسابت لسمعه موسيقى حالمة يتخللها خرير ماء وزقزقة عصافير.. عادت الأرملة حاملة ألبوماً للصور وجلستْ إلى جانبه ورائحة عطر الليمون تفوح منها.. فرشت الألبوم على فخذيها وراحت تقلب صفحاته.. كانت مجموعة من الصور الفوتوغرافية لم تخل صورة منها.. صورة لها وهي تقف على سياج مرسى بحري بفستان صيفي سمائي اللون، وعلى رأسها قبعة قشٍ عريضة.. صورة وهي جالسة في مقهى على الرصيف تطالع جريدة.. صورة تجمعها مع رجل ببذلة وقبعة إفرنجية بشعر مفروق من المنتصف وشارب دقيق في استوديو للتصوير.. تتوقف عند صورة صاحب الشعر المفروق من المنتصف وتقول متصنعة الأسى:» كان رجلاً جنتلماناً بحق.. لم يسئ لي قط.. لم يرد لي طلباً.. كان طيباً، عطوفاً، تزوجته وعمري لم يتجاوز العشرين عاماً.. للأسف مات في حادث سير مروع وهو في مقتبل العمر».. أغلقت الألبوم واعتذرت عن إزعاجه، فأطرق لحظة ونظر إلى «كاسة» الآيس كريم التي تبقّى فيها مقدار ملعقة واحدة وتناولها.. حانت منه التفافة إلى ساعتها الجدارية وهبَّ من جلسته مذعوراً.. كانت الساعة تشير إلى التاسعة وثلاثين دقيقة.. تمنى لها ليلة سعيدة وتوجهَ نحو منزله.. أمام الباب توقف طويلاً قبل أن يطرقه وصورة زوجته وأولاده المتحلقين حول المائدة بانتظاره لتناول العشاء تتضخم في ذهنه.. طرق الباب وفتحه له أحد أولاده.. كان أول شيء ألقى عليه نظرة مائدة العشاء.. كانت مائدة العشاء فارغة، إلا من تلك المزهرية الزجاجية بأزهارها الاصطناعية.. أولاده يجلسون أمام التلفاز مشدودين لمتابعة أحد الأفلام، وزوجته منكبّة على غسل أطباق العشاء.. تراجع محاذراً ألا يثير انتباهها ودخل غرفتهُ وتمدد على السرير.. شعر بنفسه يبتسم، ونكهة آيس كريم الأرملة ما زال منتشراً على لسانه..