الحداثة في الأدب

ثقافة 2023/08/29
...

 توماس غريفز
 ترجمة: محمد تركي النصار

يتقصى محرّر موقع سكاريت المثير للجدل مفاهيم الحرية، والديمقراطية وجنون الأدب في زمن هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي.
يعيش الأدب حالياً وضعاً فوضوياً، والسبب كما أعتقد هو أن الناس - حتى الحقيقيين منهم -  يتابعون الأدب ويهتمون به للهروب من الحقائق، لكن الحقائق هي أكثر أهمية في الأدب مما هي في الحياة، لأقدم لكم مثالا: فريق لكرة سلة أو لعبة الكريكيت، مثلا يلعب مباراة ويفوز بها بالرغم من أدائه السيئ، ففي الحياة مسألة أن الفريق لعب بشكل سيئ تنسى بسرعة ويتم الاحتفال، ربما بشكل مهووس بقضية الفوز، بينما في الأدب يظل القارئ يبحث بشكل مؤكد عن الكيفية التي فاز فيها الفريق برغم مستواه المتواضع.
 إذ لا يمكن تمرير هذا الأمر وتسويغه من دون تقديم المبررات المقنعة، فالحقيقة هنا لايمكن تجاوزها ونسيانها مثلما يحصل في الحياة، إذ لا بدَّ للمعقوليَّة أن تخلق جدلا لكي يتوفر عنصر الإقناع، فالأدب ليس حظا لكنه خيال أي ليس حياة تجبر على شرح الحظ. وتبدو لحسن الحظ فنيّة عندما تقوم بهذا شبيهة بتلك الحكايات التاريخية الخيالية حيث يقتل الخيال التاريخ، والتاريخ في فصل من فصول الانتقام يقتل الخيال، ولم يستغرق الأمر افلاطون طويلا ليدرك بأن الأدب هو تاريخ سيئ، وأن لا أحد يقرأ الشعر.
فما الذي يتوجب علينا القيام به؟
حقائقي هي التالية:
 أنا محرر موقع سكاريت منذ عام 2009 حتى الآن، وهو موقع يهتم بالنقد العام والتاريخي ويدعم الشعر أيضا..
 في الجزء السادس من سلسلة سكاريت التي بدأها الموقع مؤخرا قصائد مميزة عثر عليها في «الفيس بوك»  إذ إن موقع سكاريت يبحث عن قصائد هايكو جيدة لينشرها في هذه السلسلة، ومن  الامور المثيرة التي حصلت هو إن الشاعر دايبيان ناير جذبنا بهذا الهايكو الذي نشر في السلسلة:
مكالمة هاتفيَّة طويلة
رائحة الأرز المحترق
من المطبخ
سكاريت لها سمعة ليست طيبة في مهاجمة العربة اليدوية الحمراء (قصيدة لكارلوس وليامز أحد رواد الحداثة الشعرية في العالم)، واحتيالات الحداثة الجمالية، وإذا سمع أحد في هذه اللحظة بأننا نصف قصيدة هايكو بأنّها عظيمة فإنّ تهمة النفاق سرعان ما تلصق بنا بشكل سريع..

كان الهايكو أول شكل شعري كتبته كتمرين مدرسي في مدينة نيويورك سيتي، وكنت حينذاك في الحادية عشرة من عمري في الصف السادس، ولن أنسى ابدا القواعد الصعبة التي يجب اتباعها في كتابة الهايكو: 5-7- 5.
ثلاثة أبيات من خمسة وسبعة وخمسة مقاطع..
هل هذا هو الشعر؟  قطعة من الكتابة تتبع بعض القواعد؟
إنه لأمر سهل ومبهج، هكذا كنت أنظر للأمر عندما كنت يافعا، أتذكر أنني كنت أفكر بالانضمام إلى أساتذة الهايكو بجهودي المتواضعة حينذاك...
لقد كنت مغرورا عندها بالرغم من أنني كنت خجولاً جداً...
هناك طريقتان للنظر إلى هذا الأمر، الاولى أنني كنت أحمق عندما ظننت أنني أكتب هايكو مميزا، الثانية هي أن الحمقى فقط يعتقدون ان هناك أساتذة هايكو يكتبون بشكل مدهش.. الشكل الفني الديمقراطي لا مجال فيه للنخبوية.
الطفل المغرور كان على حق، لكن عجرفة الهايكو الخاصة بي كانت ديمقراطية، وليست نخبوية..
 إنَّ الشخص الذي يكتب نقدًا بطول الهايكو سيقابل بالازدراء: النقد متعجرف.
سيظل الشعر والنقد موجودين دائما، والأخير يكون حيث يحتدم الصراع بين العجرفة النخبوية والغطرسة الديمقراطية، الشعر لا يمكن أن يكون متعجرفاً فهو مضاد للتبجّح، والقصيدة تتبع قواعد وأحياناً بشكل لبق ومتواضع تكسر قاعدة هنا أو اثنتين هناك، وبإمكان المرء أن يلاحظ كيف يحتل الهايكو المتواضع مرتّبة عالية في الميزان المضاد للعجرفة والغرور..
ها ها ها يا لها من قاعدة تافهة هكذا يقول (الديمقراطي)
لاحظ كيف استطاع الشاعر ثني القاعدة (لكن لم يكسرها تماماً) هذه القاعدة الصامدة على مرِّ الأزمنة بلا أدنى شك أنّه يستحق لقب المعلم هكذا يعبر (النخبوي)..
حشود من البعوض الأدبي تنجذب لما أطلقنا عليه النقد النخبوي، بينما الوحيد المنعزل يميل الى اختيار النقد الديمقراطي، ثمة رسالة ذات محتوى سياسي في هذا المقام..
يعوّل النقد على الطول، ولا يمكن له أبدا أن يكون متواضعا مثل الهايكو، كلما كتبت أكثر بدوت أقل تواضعاً، الطول كما عبر عن ذلك ادغار الان بو في فلسفته عن التأليف هو الحقيقة الماديّة الأولى للقصيدة، والتواضع الأخير هو الصمت مروراً بكل أشكال العجرفة: الرواية والقصيدة والمحاضرة التي تظل تمتدُّ وتطول كأنّها لا تريد أن تنتهي أحياناً..
 وإذ أتحدث عن قصيدة (العربة اليدوية الحمراء) لا أميل الى عبارة يعتمد على إذ كيف يمكن لي أو لاي منا او أي شيء أن يعتمد على سلسلة من الأشياء مثلا عربة يدوية حمراء أو دجاجات بيضاء فمن الواضح إن هذه الأشياء تعتمد على أشياء أخرى أكثر من أخرى تعتمد عليها.
إشارة مؤلف (العربة اليدويَّة الحمراء) فيها تأكيد على أنّه يحقق انتصاراً لافتاً من خلال اعتماده على القصيدة وصورها في تجربة القراءة..
وبالنسبة لقصيدة ديبايان ناير، رأينا أعماله في “الفيس بوك” على مدى عشر سنوات وأعتقد أنّه عبقري ولا يهمُّ هل العالم صنعه هكذا أو هو صنع نفسه، أم أن العالم لا يريده أن يكون هكذا لكنه فشل، وتلك احتمالية موجودة دائماً، لست متأكداً.
وبخلاف (العربة اليدويَّة الحمراء) لم يخبرنا شاعر الهايكو هنا عن الكثير مما (يعتمد على) حزمة من الأشياء التي تقدم لنا على هيأة صور جامدة.
وكما يقول الناقد الألماني غوتهولد افرايم ليسنغ في كتاب لاوكون إن الشعر والرسم مختلفان بشكل كبير فنحن لا نرى أيّ شيء حقاً في الشعر بل نحن نسمع عن أشياء..
ناير يعبر تماماً عن هذا لذلك أرى أن هذه القصيدة مدهشة جدا.
مكالمة هاتفيَّة طويلة
رائحة الأرز المحترق
من المطبخ
لا توجد عطلة في حياة الانسان، نحن نعمل دائما، وأن تكون ناضجا يعني أن تدرك بأن العمل والوجود الانساني هما الشيء ذاته.
قصيدة ناير (مكالمة هاتفيَّة طويلة) هي قصيدة مختصرة، لكننا مع القصائد القصيرة ننسى أحيانا الجهد الهائل الذي تطلبته عملية التلخيص لتقديم القصيدة بأجمل وأقوى شكل ممكن، وهو ما يقوم به الشاعر بطريقة تكاد تكون علمية.
قال عرَّاب الحداثة الأشهر، عزرا باوند مرة عن قصيدته (في محطة المترو) بأنّه اختزل القصيدة من نص طويل جداً، التلخيص هنا أمر بالغ الأهمية وهو ما يفسّر لماذا أن رائحة الأرز المحترق بسيطة ولا تخلو من نوع من الغرابة مثل المكالمة الهاتفيّة الطويلة. وقد تبدو جملة (من المطبخ) غير ضرورية، لكنها ترسم فضاء للقصيدة، المكالمة تجري بعيدا عن المطبخ، وليس واضحاً ما إذا كانت رائحة الأرز المحترق قد وصلت إلى الطباخ، أم لا وهو المشغول والمشتت بمكالمته الطويلة. ويبدو أن الأمر ليس مقتصراً على أرز يتقرمش ويحترق، لكن حريقاً مهدداً للحياة ربما يكون على وشك النشوب..
ضع القصيدتين في الميزان، أيّهما أكثر إثارة وشاعريّة: قصيدة ديبايان ناير؟ أم قصيدة عراب الحداثة والصانع الأمهر، عزرا باوند وقصيدته الأكثر إيجازاً في تاريخ الشعر الحديث؟

عن موقع:  outlook