الجوع إلى الحوار

ثقافة 2023/08/29
...

 د. جبار خماط حسن

من وقائع الأيام، أن يكون للمسرح يوماً عالميّاً، تحتفل فيه المراكز المسرحية في البلدان، فيه تقرأ رسالة يوم المسرح العالمي، ويكلّف المعهد الدولي للمسرح، سنوياً مبدعاً مسرحياً له منجزه الفاعل والمؤثر، ليكتب رسالة يوم المسرح العالمي؛ لذا تمَّ تكليف الكاتب المسرحي العربي الخالد سعد الله ونوس في 1996، ليكتب الرسالة المسرحيّة التي ترجمت إلى العديد من لغات العالم.. أراها في مضامينها وبنيتها الفكريّة، أعمق كلمة، إذ تلخّصت في ثلاث كلمات «الجوع إلى الحوار» مبيّناً أن الحوار يصنع الديمقراطية، والصوت المنغلق الذي لا يؤمن بالحوار المتبادل مع الاخر يصنع الاستبداد  .في مجموعة الأعمال الكاملة، بطبعتها الاولى 1996 والصادرة عن الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق، جاء نص الرسالة كاملة، الذي ينبغي على كلِّ مسرحي التعرّف عليه، والايمان به، كونه بياناً فكرياً وفنياً للمسرح، ماهيته وتطوره علاقة خطابه بالإنسان. يذكر عبد الرحمن منيف، الذي كتب مقدمة تعريفيّة للمجموعة الكاملة، الآتي “المسرح يحسن إعلان الاحتجاج والتمرّد على الظلم والاستغلال والخطأ، يبحث عن طريق الخلاص، ليس الخلاص الفردي، وانما تجاوز الأشراك المنصوبة، وصولا إلى عالم أجمل وأكثر رحابة».
لا يكون هذا التوجه الفكري للخطاب المسرحي إلا بالحوار، إنه الصوت العالي مع النفس والآخر، ليعكس الهموم والأحلام.. بهذا الهدف، وبهذا التفاؤل فكّر سعد الله ونوس بمسرح جديد.
 الجوع الى الحوار، واقع صعب، وفرضيّة جديدة للأمل بمسرح جديد. قالها ونوس، لأنّه نظر بعين العارف، انحسار الحوار عالمياً..  ثمة حرب باردة سرعان ما تتحول إلى ساخنة بسبب تقاطع المصالح والخلاف الذي يوقف عجلة الحوار، ومن البديهي أن هذا الحوار “يقتضي تعميم الديمقراطية، واحترام التعدديّة، وكبح النزعة العدوانيّة لدى الأفراد والأمم على حد سواء”.  إنَّ تأكيد سعد الله ونوس على الحوار، بأنه العصب الذي يرسل اشارات التواصل واعطاء تكاملية الفكر من خلال تبادل الحوار الذي يحمل أفعالاً، تتحول الى سلوك يراه ويسمعه المتفرج، إذ ميزة المسرح “أن المتفرج يكسر محارته، كي يتأمل الشرط الإنساني في سياق جماعي”.
تتعدد مستويات الحوار الذي تحتاجه الشعوب، يبدأ من المسرح الذي في جوهره احتمال يحقق طقساً، يغادر العادي والمألوف، إذ تتعدد مستويات الحوار، لكنّه يظل الطاقة المحركة للوجود المسرحي “ثمة حوار يتم داخل العرض المسرحي، وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرّج، وهناك حوار ثالث بين المتفرجين انفسهم، وفي مستوى أبعد، هناك حوار بين الاحتفال المسرحي، عرضا وجمهورا، وبين المدينة التي يتم فيها الحوار”.
ما يفكر به ونوس مسرحاً ليس كباقي المسارح، يفكر كيف يكون عضويا بين الناس، حاجة فكريّة وشعوريّة اساسيّة، وليس ترفاً فائضاً عن الحاجة .
للأسف.. هذا التصور المثالي للمسرح، يواجه واقعاً يُربك حضور المسرح، حتى تقهقر.. أتطلّع كيف تضيق المدن بمسارحها، تجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة، بينما تتوالد في هذه المدن التفاهات المعلّبة. إنّنا محكومون بالأمل، كلمات ذاع صيتها في أرجاء المعمورة المسرحيّة، لأنَّ ما يحدث اليوم من كبوات واضطرابات لن يكون نهاية للتاريخ، فالفن طاقة علاجيَّة ومقامة جماليَّة لكل مشكلة أو أزمة أو تدهور قيمي أو صحي، فما قاله ونوس عن البعد التأهيلي والعلاجي للفن، يضعنا أمام حقيقة نزع فتيل الألم والشفقة على ذاتنا التي فقدت الإرادة، جاء الفن ليحييها ويزرع فيها أمل المقاومة “منذ اربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان، ليس بالأدوية حصراً، بل أقاومه بالكتابة والمسرح”.. بين فكي مرضه القاتل، كتب الكثير من الروائع المسرحية (الاغتصاب، طقوس الاشارات والتحولات، أحلام شقيّة، منمنمات تاريخيّة).. قالوا له، لماذا تكتب في الوقت الذي ينحسر فيه المسرح؟، كان جوابه “إن التخلي عن الكتابة للمسرح، وأنا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي، وقد يعجلان برحيلي، وأني أكتب، لأني أدافع عن المسرح، وأقدم جهدي لكي يستمر هذا الفن الضروري حياً”.
منذ (حفلة سمر من اجل 5 حزيران) إلى (ملحمة السراب) مروراً بالنصوص (مغامرة رأس المملوك جابر، الفيل يا ملك الزمان، الملك هو الملك، سهرة مع أبي خليل القباني) مرت عجلة الكتابة لدى ونوس بأحداث ومواقف، لها اشتراطاتها التاريخيّة ومسؤوليتها الإبداعيّة، دفعته للإبداع، منطلقاً من فرضية مفادها أن الحوار يصنع الحضارة ويحافظ على الثقافة من الوقع في فخ التفاهة “مهما بدا الحصار شديدا، والواقع محبطا، فإنّي متيقن أن تضافر الإرادات الطيبة على مستوى العالم، سيحمي الثقافة، ويعيد للمسرح ألقه ومكانته”.هكذا أعطى لنا سعد الله ونوس درساً جمالياً وإبداعياً، إنّنا رغم الجوع الى الحوار، وسط هذا العالم الذي يسود فيه حوار الطرشان، ما زلنا محكومين بالأمل، وما يحدث اليوم، لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ.