سياسة إقصاء السياسة عن الشعر

ثقافة 2023/08/30
...

 جون برادلي

 ترجمة: عبود الجابري

(ليس ثمة سياسة في الأدب الأمريكي).. بهذه العبارة اعتقدت لورا بوش أنها أغلقت الباب للأبد على الشعر السياسي .. فهل أفلحت؟

السيدة الأولى كانت قد خططت لعقد حلقة دراسية تحت عنوان (حلقة البيت الأبيض الدراسية حول الشعر الأمريكي) بتاريخ 12 شباط 2003 وخصصت تلك الحلقة لمناقشة أشعار (اميلي ديكنسون، والت ويتمان و لانجستون هيوز).

 غير أنَّ آلاف الشعراء المناهضين للحرب قاموا بكتابة آلاف النصوص التي تندد بالحرب الدائرة في العراق وكان من بينهم الشاعر والمحرر (سام هاميل) الذي قام بتسليم النصوص الشعريّة تلك إلى السيدة الأولى، ما تسبب بإلغاء تلك الحلقة، وكان ذلك سببا لحشد المئات من المناوئين للحرب من عموم البلاد، وطباعة تلك القصائد في موسوعات شعريّة، ولو تجاهلنا اثر الخلاف الذي خلفته فرضيّة السيدة بوش في (أنْ لا مكان للسياسة في الشعر) فإنَّها ربما ستتمنّى لاحقاً لو أنّها لم تقم بإلغاءالحلقة الدراسيّة. راودتني هذه الفكرة إبان معايشتي للحرب على فيتنام، تلك الحرب غير المبرّرة، تسبّبت بأمواج من الاضطرابات المدنيّة التي أغنت كثيرا من التجارب في مختلف الفنون، ولا سيما الشعر الذي شهد ازدهاراً واضحاً بعدما كان الكلام السياسي حينذاك يتركز على مواضيع محددة، مثل التمييز العرقي والجنسوية ومواضيع البيئة، ومن خلال قراءتنا لقصائد الشعراء ألين جنسبرغ، أدريان ريتش، غاري سنايدر، ودنيس ليفرتوف نتعرّف على عدد قليل من شعراء تلك الحقبة ممن أبدعوا أعمالاً رائدة في هذا الجانب. فنحن في أمريكا نغيّر إهاب التاريخ كما تغير الأفعى جلدها مرددين التساؤلات ذاتها عن براءة أمريكا، وها نحن بسذاجةٍ تامة نعيد طرح التساؤلات ذاتها. أودُّ هنا أن أناقش مشهد الشعر السياسي وانعكاساته على أفكار العديد من الأمريكيين، وقبل أن أقوم بذلك أودّ أن أقر بالفضل لـ (لورا بوش) لقيامها بإلغاء الحلقة الدراسيّة عن الشعر الأمريكي. الشعر في أمريكا يعيش حياةً هامشيَّة وهو يحتاج دائما إلى ما يتيسّر من التأييد، غير أنَّ المدهش هو التساؤل – هل يحتاج الشعر إلى تأييد من هذا النوع ؟- ، هل على الشعر الأمريكي أن يروَّجَ كشعرٍ سياسي؟، ويمكننا صياغة السؤال كمايلي (هل على الشعر الأمريكي أنْ يُخصى سياسياً؟). وإذا ما عدنا لقراءة الشعراءِ الثلاثة الذين اختارتهم لورا بوش لهذا التكريم فسنجد بكلّ تأكيد أنَّ كلّاً منهم يمتلك صوته الخاص المميز، غير أننا لن نستطيع أن نقوم بتكريـــم أي مبدع أصيل بمعزل عن إبداعه. ولنبدأ بإميلي ديكنسون:

يمكنُ تصنيف اميلي ديكنسون كشاعرةٍ سياسية عند الحديث عن عزلتها الاختيارية، حيث لم تكن تغادر منزلها إلّا نادرًا، وهناك الكثير من الروايات حول قيامها بمحادثة الزائريــن عبر شاشةٍ مخصصة لذلك، ولكن هل تعني العزلة شعراً سياسيّاً؟.

ثمّةَ قصيدةٌ قصيرةٌ لديكنسون تدهشني دائما :

“الإيمانُ اختراعٌ عظيم

لو كانَ لدى الناس بصيرة

غيرَ أنَّ المجهر

أكثرَ حكمةً عند الضرورة”

اميلي ديكنسون تكتب عن المجهر عام 1860م؟، ذلك أحد الأسباب التي جعلتني أطرب لهذه القصيدة، ولم يكن ذلك سبباً وحيداً لإعجابي بها، فجرأتُها أثناء المناقشات في التعليق على العلاقة بين الإيمان والعلم ما تزال قائمةً كما لو أنّها كُتبت هذا الأسبوع، كيف إذن يمكن لهذه القصيدة أن لا تكون سياسيّةً؟، ولماذا لم تكن تعبّر عن أفكارها إلّا من خلال هذا الموضوع؟، إميلي ديكنسون لها باستمرار ريادة الكشف عن موضوع الإيمان من خلال شعرها، ومن البديهي أن لا نقرأ هذا النوع من الشعر قراءة سياسيّة على الرغم من أنَّ بعض قصائدها تستثير الإعجاب في الوقت الحاضر، ويجب أن تُقرأ بعيداً عن المناهج الدراسيّة. ولكن في قصيدة قصيرة مباشرة جدّاً، يبدو عسيراً تجاوز البعد السياسي في قصائد ديكنسون، وأعني بالسياسي ذلك الشعر الذي يطرح بشكل مباشر أو غير مباشر موضوعاً اجتماعياً، الشعر الذي يفترض أنّ حياة الأفراد ليست بمعزل عن حياة الآخرين، الشعر السياسي برأيي يعني أن تكون تجارب الأفراد غير منفصلة عن تجارب المجتمع، ومؤكّد أنَّ قصيدة ديكنسون قد كشفتْ عن ذلك، وأن خبرتها في استعمال المجهر في المدرسة قد زوَّدتها بتلك الاستعارة لتكوين نظرتها الشموليّة للأشياء، وإن كانت قد أمضت القسط الأكبر من حياتها في (أمهرست ماساشوستس)، فإنّ ذلك لايعني قطيعةً أبدية مع عصرها أو أنها لم تكن تملك ما تقول بشأنه، وهل كانت تجهل التأثير الجمالي لحظر السياسة في الشعر؟.

ولنمضِ إلى الشاعر الثاني في الحلقة الدراسيّة، إذا أردت أن تقرأ شعرا رصينا عن الحرب فدونك (والت ويتمان)، عليك بمقارنة بواكير شعره التي تمجّد البطولة في (أوراق العشب) بتلك التي كتبها إبّانَ عملِه مُسعفاً في الحرب الأهليّة، شخصياً أميل إلى قراءة ديوان (النفير)، مقتطفات تبدو كأنّها هذياناتُ محموم :

“الوجوه، الأغاني والمشاهد التي تفوق الوصف

غموض يلف المكان

وبعضهم يموت

الجراحون يعملون

والخدم يحملون المصابيح

رائحة الإيثر والدم المتعفّن

الضجيج، وزحام الأردية الملطّخة بالدماء

الساحة المحاذية تمتلئ

وثمة من هم في العراء

بعضهم على الألواح الخشبيَّة أو على النقالات

وآخرون يتصبّبون عرقا

من تشنّجات النزع الأخير

ينشجون، يبكون أحيانا

الأطباء يطلقون نداءات الأمر والاستغاثة

والأدوات المعدنية الصقيلة

تخطف ضوء المصابيح”

معبرة بضراوة، ليست سياسيّة؟

تخيلوا لو أنها قرأت في قاعات الدراسة، المكتبات العامة والكنائس، خلال الحرب الدائرة الآن، لكانت في صدارة الأعمال التي ترسم المشهد في العراق، ماذا قدمت الحرب لمن قاتلوا فيها ومن سقطوا في براثنها من دون أي تغيير يذكر منذ عصر ويتمان؟

وهو (ويتمان) وإن لم يعلن إدانته للحرب علانيةً هنا، فان رؤيتـــهُ الشعرية تجرّدها من الشرعية، لئن كانت هذه القصيدة غير سياسيةٍ، أو ليستْ هي أمريكية؟.

الشاعر الأخير الذي اختارتْهُ السيدة بوش في الحلقة الدراسية كان أكثر المتضررين من مواقفه السياسية، (لانجستون هيوز) الذي وصل إلى منصب مدير مؤسسة نشاطات غير الأمريكيين إبّان الحقبة المكارثية، واعترف أنّ هذا المنصب وحده لن يجعل من الشخص شاعرا سياسيا، وهو الشاعر الذي كتب :

“يبدو الآن

أنّ على الناس أن يعلموا

أنّه من العسيرِ أن أصفعَ هتلر

لأحمي جون كرو”

وهو من قال :

“أجل

أقولها بوضوح 

أمريكا لم تكن أمريكا بالنسبة لي

ومازلتُ أكرّر القسم

أمريكا ستكون بذرة خالدة

إنها حلم

يسكن أعماق قلبي

وعلينا –نحن البشر –

أن نخلص أرضنا

الأفكار

النباتات

الأنهار

الجبال

السهول الفسيحة

وامتداد الولايات الخضر

لنعيد تكوين أمريكا ثانية”

بينما نلحظ كثيراً من أسلوب (ويتمان) في هذه القصيدة، فإن هيوز يؤسّس صوتَه الخاص ويرسّخ ثراء الثقافة الافرو- أمريكية من خلال الثناء على القارة الأمريكية والحلم الأمريكي الموعود، فهو يقول بكل جرأة :

“أمريكا لم تعد أمريكا بالنسبة لي، وإنّه مازال يحلم بما يجب أن تكون عليه أمريكا، لو انّها لم تنكث وعودها لجميع مواطنيها”.

ألم يكن رائعاً لو أتيحت الفرصة لدراسة إبداع هؤلاء الشعراء في حلقة السيدة بوش؟، على الأقل للتحقق من المذهب الذي يفترض أنْ ليس ثمّة سياسة في الأدب الأمريكي،، وحقيقة كنتُ سأنفقُ بسخاء لشراء تذكرةٍ لحضور المناسبة .

** عن مجلة بميكان الثقافية الالكترونية / العدد 33 / ربيع 2007

جون برادلي

كاتب وناقد أمريكي يعمل في جامعة ألينوي حيث يعيش، وهو من مناهضي الحرب على العراق.

له كتابان في النقد الأدبي هما:

-  الموسيقى الأرضية

-  حرب على الكلمات