الأصول والمهارة الفنيَّة في خزفيات طارق إبراهيم

ثقافة 2023/09/09
...

 خضير الزيدي

ما أن تشير لمنجز الخزف وتقنياته والتلاعب الجمالي في أسسه وتوصيفه المحدد، إلا وأنت تتذكر طارق ابراهيم، ذلك الاسم الذي أرسى للجميع ملامح فن يمتلك العودة إلى الاصول والطرق التقليدية، مع الاهتمام بنمط من التزاوج في الصنعة والنتائج، التي تشير إلى تجديد فن الخزف بمهارة يديه ورؤيته، فقد كان اسمه منذ سبعينيات القرن المنصرم يوم اقام أول معارضه ومنها (معرض الفن العراقي المعاصر في المتحف الوطني للفن الحديث سنة  1972، ثم لحقها المعرض المشترك لخمسة فنانين عراقيين في السنة نفسها، ومعرض الفن العراقي في تركيا سنة 1974.) . كان اسمه  ملفتا للانتباه إلى اشتغالاته وعمق نزوعه النظري والتطبيقي، حدث ذلك ليس لأنه تدرب على يد الصينيين في بداية المطاف أو استلهم درسا اكاديميا وعمليا على يد (فالنتينوس كارالامبوس) المعلم اليوناني، الذي عاش في العراق زمنا طويلا وتعلم الغالب من الجيل السبعيني والثمانيني على يديه في بغداد، بل لأن عقلية طارق ابراهيم ذات انتماء لهوية شرقية تسعى لتغيير الأهداف وتربط معالم التربة وطينها بكيان الانسان، فكانت طرائق فنه تهيم في مخيلة تحاكي الفن التقليدي وتحافظ عليه، وتستكمل ما يتيح لها من إحاطة في خطاب الحداثة، ويحدث ذلك حينما نشاهد له وضع علامات وحروف واشكال بيضوية، تصعّد من جمالية التكوين الخزفي والسعي لاشتغال نزعة تزينية وفقا لنضوج فني وجمالي يحافظ فيه على وحدة موضوعه، إنه يستعير آليات الاشتغال الصيني التقليدي في مراحل تمهيدية ترافق العمل، بينما خياله يذهب لمقولات الجمالية في تهيئة الأجواء البنائية الرصينة، ولكن نراه من جهة ثانية يبتعد عن النظام الهندسي المعقد في الشكل، كأنه يدعوننا إلى رؤية البساطة في الشكل على مستويات المظهر والبناء، وهذه الصفة هي انتقالة عقل متجدد ومتنور، تعي أن مقولات الحداثة ليست مهمة اذا لم يصاحبها  الانتماء للأصول.
ولعل الملفت هنا أن مظاهر بناء مجسماته الخزفية لم تخف حساسيتها المفرطة بالانتماء للتقليد من ذلك الفن، لكن ما يتعاظم في أسسها ومرجعيتها سيجعل من وحدتها الموضوعية مركزا وخيارا ثقافيا لا يتعارض بين اتحاد حقلين متناقضين (تقليدي وحداثي)، وهنا تكمن مهارة الفنان، الذي يبتغي العودة للتاريخ، بينما عقليته تحافظ على أفق موسع من التجديد في خطاب العمل الفني وصياغته الجمالية بما يلفت الانتباه. واحدة من مفارقات طارق ابراهيم أن يقدم درسا بليغا لنا في انجاز رؤية انتقائية تصاحب العمل، كأنه كثير البحث عن مفردات وأشكال يتلقفها المتلقي مثلما يحدث في تعزيز الشكل بالحرف العربي ذات الطابع الاسلامي  والحرف الانكليزي، مثلما حدث مع الحرفu)) أو الاشكال البيضوية والتوجه التجريدي، الذي يميل اليه في جوانب عمله، ونفهم من ذلك أن خزفياته ذات طابع سجالي، يلد منها المختلف والمؤتلف، وهي امتداد لزمن مفتوح ممكن قراءته في كل فترة لأن فرصة تصورات العمل وما يقف وراءها من ذهنية وخيال خصب كفيلان بالانتقال إلى احياء هذا الفهم وتوثيق حقائقه، وأتصور أن العديد من مجسماته توصف بهذا النمط البنائي، فقد نجد شكلا صريحا يخيل إلينا أنه امتداد لخزف التاريخ الرافديني، وفي الوقت ذاته ستصاحب العمل معايير بنائية لها نتائج ترتبط بالحداثة، من حيث التفاصيل المتعلقة بالتدوير والتكوير حينا وبالاختزال  والعودة إلى الاستعارة في الشكل الواحد، مع ما يرافقها من طبيعة الألوان، التي تطلي العمل وكل هذه المحاولات جاءت وفقا لطراز مصور ومعبر وامتلك خيالا لم يستبدل أو يقف على الحياد، ولهذا تبدو مواضيع طارق ابراهيم وكأنها تستحضر البديهية، فالالتباس المبهر في محاولة التوازن والخبرة الطويلة بأطوار العمل والتعامل مع الخامات الصعبة جعله في موقف واضح، من لجة الارادة والتصالح مع فكرة بناء اشكال قابلة للتأويل، وهكذا تتجه اثار عقلية هذا الخزاف إلى منح المتلقي مزيدا الايقاع الجمالي والوقوف، متأملا أمام صناعة شكل جمالي له وظيفة وقاعدة رؤية خاصة. وبالإمكان لمن خبر معالم تلك المجسمات أن يقول ألا اثر لموضوعات تستبدل رؤيتها في الحديث، خارج المحيط والبيئة الشرقية  لأعماله القديمة الأولى، وهي سمة لها خلفية ثقافية راسخة في عقلية طارق ابراهيم، فقد حدد مسارا لأشكاله، حتى وهي تخلو من التشخيصية بان جعلها ابنة بيئتها وزمانها، وهو ما يعمّق الصلة بزهده وانجذابه للواقع، وابتعاده عن رمزية لا طائل منها طالما يتولد من الشكل الأخير ما يمكن العثور عليه لإحياء الجمال الظاهر والمبطن، فمع وظيفة الخزف وتنويعاته اللونية المبهرة وصناعته الصعبة يعثر المتلقي على رسالة هذا الفن، وسيكون الحكم حينذاك لمن يعطي الاستعارة والمجاز في الخزف فضاء التداول ومهابة الحصانة.