نرد بوجهين

ثقافة 2023/09/09
...

  كاظم جماسي

امسك الشيخ بكفي كلتيهما وراح مبحرا في عيني، بعينيه المضمحلتين المزروعتين أسفل جبهته المخددة بالتجاعيد، تصدران ومضا غريبا، يهم بكلام يتحشرج في بلعومه، يريد أن يخرج ولا يخرج.. جسده الذاوي يرتجف بشدة، على الرغم من ثقل البطانية التي يلتحفها في عز حر آب.
كان كل يوم وطوال سنوات، أيام ضنك الحصار، في رواحه وعودته متبضعا من السوق، يتوقف عند الكشك الذي أتخذته سكنا وعملا لبيع لعب الأطفال المستعملة، يشتري عددا من اللعب، وقبل أن يدفع ثمنها، يسألني ذات السؤال: كم سعر قنينة العرق اليوم؟ وحين أخبره، ينقدني ضعف ثمن ما اشترى، ويمضي مرددا: عش يومك.. عش يومك..
أباحت لي ذات ليلة ونحن على السرير، نجية الأرملة التي تقوم على خدمته ساعات محددة من النهار، وتزورني ساعة في جوف الليل، أن الشيخ قضى في الأسر ما يزيد على الثلاثة عشر عاما، وانقطعت تماما أخباره، السنين الأول عن ذويه، ولما عاد صدم بزواج أخيه من زوجته، وقد فكت مع الاخير عقدتها في الانجاب، وصار لهما نصف دزينة من صبايا وصبيان، حين تيقن مما حدث، غادر من فوره والى الأبد مدينته الجنوبية ولجأ إلى مدينتنا، ممتهنا العرافة والسحر.
ـ لعبة.. سمجة.. لعبة سمجة..
انتبهت إلى صوته آتيا من أغوار عميقة، وثمة إشراقة نطقت فوق سحنة وجهه وحبات عرق تلألأت على جبينه، فيما شاربه ولحيته الكثين، راحا يرتعشان بوضوح .
انتبهت إلى الحائط خلف سريره، كان مشغولا بأكمله حتى السقف برفوف ممتلئة بلعب الاطفال من تلك التي كان يتبضعها مني.. أخبرتني نجية حين سألتها مرة لمن يشتري الشيخ كل هذه اللعب؟ قالت: يقسمها حصتين حصة يحتفظ بها لنفسه، والآخرى يهبها لأبني. وكان حمودي ابنها لم يكن قد بلغ العام الأول من عمره، حين توقفت سيارة" الكراون"، قبل ثلاث سنوات، أمام باب دارهما حاملة نعش أبيه المكفن بالعلم الوطني.
كنت قد شرعت بفتح دكاني ـ مسكني ضحى هذا اليوم، ولم أكد أكمل توضيب بضاعتي أمام الدكان، حتى قدمت نجية راكضة، لافتة أنظار من في السوق جميعا، سيما الذكور، فقد كان ثوبها الملتصق على جسدها يشي بمكورات قوامها المكتنز بالثمار الشهية، استغربت: خير.. ما الذي جاء بك؟
ـ حال الشيخ جد سيئة، يريد حضورك
أجابت لاهثة.
هرعنا معا اليه، ولما وصلناه وجدناه مسجى على سريره، أشار لنجية بالخروج من الغرفة، لأبقى معه منفردين، أجلت ناظري فرأيت عدا، حائط اللعب، حيطان الغرفة الأخر موشحة جميعها بقماش أخضر من الستن اللامع، وفي المنتصف من أرضيتها، مبخرة متوسطة وعليها أحجار فحم متوهج، لم تزل ترسل دخان بخور عبق الرائحة، فيما نافذتها الصغيرة، بزجاجها المطلي بالأخضر ايضا، مقفلة تماما، ما جعل جو الغرفة المعتم ثقيلا خانقا، سارعت إلى فتح النافذة، لعل ثمة أوكسجين وبعض حزم ضوء نهارية ينعشان جسد الشيخ الراقد.. سألته إن كان علي نقله إلى المشفى، رفض بنحو قاطع،.
جسست جبهته فكانت ملتهبة، طلبت من نجية جلب طاسة ماء بارد ومنشفة، ورحت أبلل وجهه أكمله، بعد دقائق فتح حدقتيه حد سعتيهما متسائلا: أين أنا؟ أدار بصره في الاتجاهات جميعها، وأنتهى ناظرا وجهي، هز رأسه برضا..
 - خذ.. المفتاح.. المعلق.. على صدري.  قال بصوت خافت. أزحت قليلا طرف البطانية عن أعلى هيكل أضلاع قفصه الصدري، وخلصت بحذر وبطء الخيط الذي يحمل المفتاح من رقبته البالغة النحافة، وأعدت دثاره، وفيما غشيته غيبوبة، بقيت برما أنتظر منه أمرا آخر.. عاد لينبس بصوت متقطع: - الصندوق.. كله.. لك.. وأشار إلى ما خلف  رأسه.
لم أكن قد لحظته من قبل، كان صندوقا خشبيا كبيرا يحتل الزاوية لصق السرير، صندوق عتيق، خشبه كله مطلي بطلاء أسود يشبه القار، ترصعه، متناغمة، رؤوس مسامير فضية..
مد يده فأمسك بيدي، رفعها إلى فمه، وأبقاها ساكنة على شفاهه، تمتم بكلمات لم أفهم منها شيئا، بادلني نظرات متوسلة حانية، ثم لم يلبث حتى سكن تماما.
بعد أن سحبت يدي من فوق فمه، للحظات رحت انظر ساهما، إلى وجهه وقد أخذ يبث نورا غريبا.. بعدها توجهت إلى الصندوق، صر عاويا حين  فتحته، رأيت كتابا بحجم سجل كبير، وبغلاف من الجلد منقوش بزخرف بديع مبهر، وخط في أعلاه" كتاب الجفر".. إلى جوار عدد آخر من الكتب وعدد من المحابر وقصبات البردي، وفي جهة أخرى علبة معدنية عريضة مغلقة بغطاء زهري، رفعت الغطاء فوجدتها ممتلئة بأصناف من المسابح والخواتم، بينما تحتل قاع الصندوق، معظمه، حقيبة سفر كبيرة، سحبت زنجيلها فبدت مختنقة برزم مال كثير.. بالكاد أخرجت الحقيبة ودحست علبة المسابح والخواتم في عبي، ثم القيت نظرة أخيرة في جوف الصندوق، ولما لم يكن هناك ما أنا بحاجة اليه، أنزلت الغطاء وأعدت القفل محله .
وأنا في طريقي خارجا، قذفت بمفتاح الصندوق إلى جثمان الشيخ. كانت نجية مرتبكة مبهوتة تقف وسط الحوش في انتظاري، قبالتها وقفت، فتحت الحقيبة بصمت، منحتها عددا من رزم المال، ومفاتيح دكاني، وكما لو كانت منومة، ظلت تبحلق بوجهي، لسانها تعقده الدهشة، تركتها وغادرت.
لم يكن غير إيقاع متصاعد مموسق يصدح في دخيلتي، تتمايل على وقع انغامه انحاء جسدي جميعها، وانا أرتقي سلم الطائرة: عش يومك.. عش يومك..