من يبحث في الغبار عن لمعان المعنى؟

ثقافة 2023/09/10
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

تزدحم فيه الأحلام والأفكار، تولد فيه الشموس وتغيب، أنوار تعلو وتتلاشى بصمت، أفكار تسمو أغصانها، ثم يأكل الغيابُ جذورها كالعطش، حياة تستحق الخلود. حياة عميقة في ظلال مزدحمة حد الظلام، إنه هامش الثقافة العراقيَّة. كثيرٌ من الحيوات المنسيَّة، تحيا من دون أن يلامسها ضوء المنصات، أو تتوهج بين سطورها شمسُ الشهرة، أو يلوح لها بصيصُ الإطلاع، أو أمل التوثيق على الأقل.  هامش حياتنا الثقافيَّة أوسع من مركزها بكثير، وطالما ابتلع هذا الهامش تجارب كثيرة، ورماها في بطن النسيان المزدحمة بثقافات وأديان وعادات وتقاليد، بل ومجتمعات متراكمة في ذلك الغياب اللا متناهي.

عن هذه الحيوات المنسيَّة، وعن مضامينها، عن أسماء أفنت كل مدخراتها من العمر والجهد والوعي لإنجاز كتب، وفن وثقافة متنوعة، ولكنّها ذهبت في غالب الأمر إلى نسيان مرير ومريع وغريب، عن كل هذا أتساءل!. 

تجارب لم تنصفها الحياة الاجتماعيّة ولا المشهد الثقافي، أسماء مهمة غطى غبار النسيان لمعانها. عن حياة ذلك الهامش وعن أسمائه المنسيّة أبحث هنا مع نخبة متميزة من مثقفينا.


موج النسيان المتلاطم 

الشاعر محمد حسين الفرطوسي، تحدث عن هامش الحياة الثقافيّة مبدياً حسرةً وألماً واضحاً في إجابته لما يراه من أهمية بالغة لمنجز ثقافي وإبداعي كبير، على مستوى الكم والنوع أيضا، مشيراً إلى رغبته بالحديث عن اتساع ما يولد ويموت في ظلال هامش الثقافة العراقية، من منجز إبداعي على مستويات الشعر والسرد، والكتابات البحثية في المشهد الثقافي

والأكاديمي.

وأضاف الفرطوسي موضحاً: أكاد أجزم بأنَّ كثيرا من الأسماء التي نرى لها شهرة وأهمية ومركزيّة في يوميات ثقافتنا المعاصرة، يمكن أن تذوب مع موج النسيان المتلاطم في ثقافتنا، وذلك النسيان قد لا يكون متعمّدا من قبل جهة او مؤسسة ثقافية، بقدر ما هو ناتج عن غياب البحث الإبداعي وانتفاء التوثيق أيضا. 

نحن في مشهدنا الثقافي، نتبع غالبا ما يظهر أمامنا من مبدعين، ولا نهتم بالغائبين أو المغيبين او المنسيين، حتى أن الناقد لدينا اصبح يعتمد على ما يصله من منجز إبداعي من قبل المؤلف، ولم يعد يذهب بنفسه للبحث عن المهم والمتميز والنادر، لهذا أصبح مشهدنا الثقافي، مشهدا للحضور الادبي الاجتماعي، وعندما نبحث عن مشهدنا الثقافي الحقيقي، علينا حينها أن نبحث كثيرا عن أسماء تعمل في الظل، ولا تتبع أساليب التواصل والتنافع الثقافيّة الحالية، وبالطبع أنا أعني بكلامي هذا الأغلب وليس الجميع.

صحيح أنّنا عشنا في دولة ومجتمع منشغل على حد كبير بالحرب وآثارها، والعنف وأشكاله، ولكن الغريب هو، أن الدولة لا تحاول أن تتفهم أهمية الثقافة في تغيير الواقع، على الرغم من أن التغيير الثقافي الاجنبي يطغى على جميع المجتمعات، بمعنى أن الدول وحكامها يسيرون في نهج ثقافة عالمية جديدة، تغزو حياة المجتمعات كليا، وتحاول كل المجتمعات المتخلفة عن هذا الغزو الالتحاق به لتكون تحت وطأته شيئا فشيئا، وأقصد طبعا الغزو الثقافي التواصلي الذي جعل العالم في قبضة مرئية، انتهت فيها الخصوصيّات وماتت فيها الأسرار وذاع فيها صيت الفضائح، وابتدأت المجتمعات بالتقارب من خلال تواصل عابر للقيم والأخلاق والأديان والقوميات، وهذا تواصل ليس لنا في ثقافته من إسهام غير الانجرار وراءه بطريقة مرسومة لنا من قبل الآخر.

أنا هنا لا أتحدث عن نظرية المؤامرة، بل عن واقع ثقافي جديد يغزو العالم، ولا ينتبه إليه المشغولون بإدارة الدولة لدينا، ولو أنهم انشغلوا قليلا لفعلوا الكثير في سبيل دعم الثقافة وأهلها ليستطيعوا صناعة واقع اجتماعي يمتلك خصوصية ثقافية ويطورها ويتواصل مع العالم من خلالها أخذا وردّا.  


قوانين ومؤسسات متخصصة  

القاص أحمد محمد الموسوي، يرى أنّ ظاهرة نسيان المبدع وإهماله، وعدم الاهتمام بالإبداع، باعتباره دعامة من دعامات تقدم الشعوب والمجتمعات وتطورها وصولاً لبناء الحضارة ورقيها، نسيان ممتد عبر الأزمنة المختلفة، يكاد يكون سمة ولازمة تمارسها مجتمعاتنا على الصعيد الرسمي والشعبي على حد سواء، وتساءل الموسوي قائلا: كم من مبدع طواه النسيان وهو يعمل بعيداً عن الأضواء والرعاية والاهتمام حتى من أسرته وأهله وعشيرته الأقربين، علاوة على غياب الرعاية الرسميّة في هذا الميدان من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المتخصصة.

وأضاف: نحن نعلم اليوم تماماً أن السبب في تقدم الأمم المتحضرة هو اهتمامها بالإبداع والمبدعين، الذي يتعدى الى المبدعين الوافدين إليها من البلدان الأخرى، فتقوم بتشجيعهم واحتضانهم ومنحهم التسهيلات والامتيازات المهمة... ومن زاوية أخرى تزخر مكتباتنا بالعديد من المخطوطات والرسائل الجامعيّة وأطاريح دكتوراه مهملة، لا يصل منها إلى سوق القراءة إلّا ما تمتد اليه يد الباحث نفسها وبجهد وقدرات شخصية تثقل كاهله وتأكل من رزقه ورزق عياله، وكم براءة اختراع ليس لها من حظ سوى أن تدوّن في السجلات الرسميّة ليلوكها بعد ذلك ضرس النسيان، وكم من مبدع ترك وهو يواجه ظروفاً قاهرة ومصيراً غير معلوم، مرةً وهو يكابد العمل، وأخرى وهو يصارع المرض وينازع المنية، والأمثلة على ذلك عديدة، ومنها وفي النجف فقط، الراحلون على التوالي: الروائي عبد الهادي الفرطوسي والأديب حميد المطبعي والشاعر حمودي السلامي والناقد عبد الرضا جبارة والفنان إحسان التلال وشيخ الصحافة الثقافية رزاق ابراهيم حسن وغيرهم... 

وقال الموسوي أيضا: لعل أهم سبب لما يعانيه المبدع في مجتمعاتنا من إهمال هو غياب القانون الذي يحمي الملكية الفكريّة والابداع، وعدم تمكن المبدع والمنتج في الميدان الثقافي بشكل عام أن يعيش من مردود نتاجه وإبداعه، فهو إن أراد إيصال منتجه للناس كان لزاماً عليه إهداؤه لهم واستجداء رغبتهم باقتنائه والإفادة منه، مما يجعل ذلك المنتج رخيصاً بأعين المتلقين لمجانيته. 

ولهذا كله فنحن لسنا بحاجة إلى رعاة وداعمين وقتيين يأتون إلينا في الوقت الذي يحتاجوننا فقط، وإنما نحن بأمس الحاجة إلى قوانين راعية ومؤسسات متخصصة تأخذ على عاتقها مهمة حماية المبدع ورعايته، كما تسهر على تهيئة الأرضيَّة المناسبة لنمو الإبداع في

المجتمع.


كلُّ الجماجم تبتسم 

الشاعر علي الاسكندري، نوّه في بداية رأيه بأهمية فكرة التساؤل عن هامش الثقافة في بلادنا التي يعدها من الأفكار المثيرة التي يمكن أن تحظى باهتمام طائفة واسعة من المشتغلين في صناعة الجمال والمعرفيات والثقافة من أولئك الذين لم تحالفهم الحظوظ  لنيل نصيبهم من الظهور واللمعان وربما الكاريزما، على الرغم مما بذلوه من جهود حثيثة في الإبداع وأصنافه، من شعر وقص ونقد وضروب أخرى لأسباب عديدة، منها ظروف الحياة الصعبة بالنسبة للبعض منهم فضلا عن تعسّر الحياة الاجتماعية، ومنهم من أغفله الإعلام ومؤسسات الثقافة بسبب عدم تواصله معها، او انشغاله في تفاصيل اليومي وإيقاع الحياة المتسارع، فتراهُ تمدد في خانة الهامش السكونيّة وغادر مركزيّة المتون الضاجّة بالحركة تاركاً الميدان لمواهب أقل كفاءة منه على حد تعبيره.

وقال الاسكندري موضحا: لعلنا لا نجافي الصواب حين نضع اسم القاص والكاتب الراحل حسن مهدي نصرالله في مستهل قائمة الذين تواروا خلف حجب النسيان والى الابد، بسبب الظرف القاهر الذي جابهه في حياته وهو المبدع الجميل الذي احتضن أدباء الاسكندرية في السبعينات خاصة وأنه الأكبر سنا ونضجا فيهم ومنهم كاتب هذي السطور ونجح الى حد بعيد في رسم خطوط النجاح لهم وكانت روايته الرائعة (كل الجماجم تبتسم) من الاعمال النادرة والتي بقيت (مخطوطة) لم تطبع حتى أصيب بمرض عضال وتشرّد بسبب الفاقة والمرض وضاعت كل مخطوطاته بعد وفاته في بداية العقد الثاني من هذه الألفيّة، أذكر منها مجموعته القصصيّة (الشيخ شامبو) وغيرها الكثير، والجدير بالذكر ان الراحل كان اول رئيس لملتقى الاسكندرية الادبي في نيسان عام 1989 ولا ننسى الشاعر والمسرحي الراحل حسين السلطاني والذي رحل مبكرًا قبل ان يكمل مشروعه الابداعي الذي كان مفتونا به في المسرح تأليفا ونقدا وفي قصيدة النثر كذلك، وقد صدرت اولى مجاميعه الشعريّة في تسعينات القرن الماضي (هارب أنتَ كأيل جميل) وبعد عقد من الزمان صدرت له مجموعته الثانية (كاف يا وتري.. نصوص البديعة) اضف الى ذلك مخطوطة لم تَرَ النور لمجموعة نصوص موندراما تحت عنوان (حمل في مرايا الذئاب) .. واذا ما تحرينا ذاكرة بابل فسوف نجدها تتحدث عن شاعر متمرّد تخندق خلف حجاب العزلة ولم يأخذ كفايته من الضوء واللمعان والشهرة إلّا وهو الشاعر خالد البابلي والذي صدرت له أربع مجاميع شعريّة هي على التوالي (مساء الاباضي) و(اصابع التراب) و(كل شيء) و(عربة يالطا) وهنالك الكثير من الأسماء التي تسرّبت الى اسفنجة النسيان لتركد مستسلمة أما لظرف قاهر او لرغبة شخصية غامضة. 


حرب ضد الظلام 

الروائي سالم حميد، ذهب برأيه إلى أن الثقافة الشعبويّة التي يخضع لها الإعلام في العراق وبقية الدول العربيّة الأخرى وسعت من مساحة شريط الهامش وغمقت من لونه الداكن أكثر بحيث سيصعب العثور على المهمشين من أدباء وفنانين في المستقبل. ووصف حميد سكان الهامش بأنّهم يكدون في عملهم من دون كلل وملل وكأنّهم يخوضون حربا ضد الظلام والنسيان وكل ما ينتجونه في ظلمتهم الحالكة قد لا يرى النور أبداً وقد يراه بينما هم ينامون في القبور، فينتبه الناس إلى أعمالهم بعد فوات الآوان. وأضاف موضحا: تبقى مقولة الراحل محمود البريكان (عش في العتمة وانشر في الضوء) ما هي إلا محاولة للتضحية في الذات من أجل ظهور المنجز وهو طموح أي مهمش في هذا الكون. أن من يعتم ويهدر التجارب الفذة والأصيلة من كتاب وشعراء وفنانين وغيرهم ممن يملكون تجارب كبيرة في الثقافة وفي الحياة، يقدم بالمقابل الضد النوعي لهم لملء الفراغ فقط.

 يلعب الإعلام المزيف دوراً كبيراً بإنتاج ثقافة هزيلة فيحتفي بفنانات لا يملكن أي موهبة سوى الشبق والشفاه المنفوخة ويتناسى تجارب الفنانات الحقيقيات ويضعهن في عتمة الهامش ويحتفي بمطربين لايستطيعون تعريف الفن بسطر واحد، ويحتفي بشعراء بلا قصائد وكتاب لا يملكون سوى هويات اتحاد الأدباء والكتاب. أن المدوّن والمحشش على منصات التواصل الاجتماعي أخذ بالتدريج يزيح الإعلامي الحقيقي ويحتل مكانه، بل إن بعض الإعلاميين من الذين يميلون مع الريح صاروا يقلّدون المدوّنين ربما حتى يبقون في أمكنتهم. فما نراه من أشباه المثقفين وهم يتصدرون المشهد يعطي صورة مخيبة للآمال ومخيبة للذات المبدعة التي كدحت على مدى حياتها، وقد يصاب المتلقي ربما بالاحباط حين يرى أشباه المثقفين وهم يتصدرون المشهد ليقدموا أعمالاً هزيلة لا تستحق حتى

معاينتها.  


النقد الإبداعي والبحث الأكاديمي 

الشاعر عقيل أبو غريب، يرى أن البحث في هامش الحياة الثقافية العراقية، يمكنه أن يكشف لنا عن حيوات ثقافية، بعضها نبت وأزهر لكنه انكسر لاحقا، بسبب الإيمان بعدم الجدوى والذهاب وراء فكرة ضياع الأثر أو محوه، من قبل السلطات المتعددة في المجتمع، وبعضها أزهر ولكنه طولب بالإيمان بأفكار سياسية تخالف وعيه وثقافته، ففضل الغياب ولم يسأل عنه النقد الإبداعي، ولم يتابعه البحث الأكاديمي، ولفت أبو غريب إلى أننا في بلد يمتلك هامشا ثقافيا يشبه هامش حضاراته التي تحت التراب، فكلما حفرت عميقا وجدت ما هو أندر وأهم وأثمن تاريخيا.

وأضاف قائلا: لو تحدثت عمّا أسميته أنت بشمس الشهرة، فسنجدها شمسا غير منصفة غالبا، لأنها تذهب بأشعتها مع مبدعي السلطة، أو الذين لا يقفون بالضد منها، كما أن تلك الشهرة أصبحت تمنح عبر وسائل التواصل الاجتماعي لطبقة سطحية، تتفاعل مع الساذج والبسيط من الأفكار، بل إن بعض ضوئها يسلّط أحيانا على مروّجي التفاهة والسخافة في المجتمع، ولم يعد للدولة أو مؤسسات الثقافة مختبر أو قيد أو ممر لفحص تلك الشهرة وإجازتها. 

لا شك عندي بأن هامش حياتنا الثقافيّة أوسع من مركزها بكثير، كما تفضلتَ، ونحن هنا بحاجة الى الكثير من التوثيق والجهد البحثي لنترك أثر المبدعين محفوظا للأجيال فهو لا يمثل إنجازا فقط، بل هو قراءات وأفكار ورؤى وإبداعات تمثل مجتمعات في زمن معين على الرغم من كونها نتاجات فرديّة لمبدعيها، فضياع تلك الابداعات، تضييع موجع لخزائن بحثيّة مستقبلية من المؤكد أنّها ستكون نافعة جدا للمشهدين الإبداعي والاكاديمي.

هنالك إثارة جميلة لسؤالك عما أسميته (بطن النسيان) التي قلت عنها مزدحمة بثقافات وأديان وعادات وتقاليد، بل ومجتمعات متراكمة. وأنا اتفق معك تماما فالنسيان أكل ثقافات كثيرة والتهم تجارب متعددة والخوف كل الخوف من استمرار هذا النسيان بالتهام ما تبقى في هامش حياتنا الثقافية.